إنها صفة من صفات المؤمنين، الذين وعدهم الله بالفلاح، ووعدهم بوراثة الفردوس، ويا له من وعد شريف، ويا له من فوز مبين، ومع وجوب عرض الفرد المؤمن نفسه على كتاب الله- عز وجل- وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- تشتد ضرورة العرض على هذه الآيات لما تمثله من حصر صفات المؤمنين، وما تشمله من عظيم الوعد وكبير الجائزة.

فقد صدر الله بهذه الصفات سورة من سور القرآن، سماها سورة (المؤمنون)، وبدأها بإعلان الفلاح المؤكد من رب العالمين، فقال: {قد أفلح المؤمنون} ثم بدأ بسرد صفاتهم وأحوالهم التى يحبها لهم ومنهم، وعليها مدار الفلاح والفوز المين.

يقول الأستاذ سيد قطب: إنه الوعد الصادق، بل القرار الأكيد بفلاح المؤمنين. وعد الله لا يخلف الله وعده; وقرار الله لا يملك أحد رده. الفلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة. فلاح الفرد المؤمن وفلاح الجماعة المؤمنة. الفلاح الذي يحسه المؤمن بقلبه ويجد مصداقه في واقع حياته; والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح، وما لا يعرفونه مما يدخره الله لعباده المؤمنين.

فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة، ووعدهم هذا الوعد، وأعلن فلاحهم هذا الإعلان؟ من هم المؤمنون المكتوب لهم الخير والنصر والسعادة والتوفيق والمتاع الطيب في الأرض؟ والمكتوب لهم الفوز والنجاة، والثواب والرضوان في الآخرة؟ ثم ما شاء الله غير هذا وذلك في الدارين مما لا يعلمه إلا الله؟ من هم المؤمنون. الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون؟ 
إنهم هؤلاء الذين يفصل السياق صفاتهم بعد آية الافتتاح.

الذين هم فى صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم فإنهم غير ملومين، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، فما قيمة هذه الصفات؟ 
قيمتها أنها ترسم شخصية المسلم في أفقها الأعلى. أفق محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الله، وخير خلق الله، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، والذي شهد له في كتابه بعظمة خلقه: وإنك لعلى خلق عظيم .. فلقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان خلقه القرآن. ثم قرأت. : {قد أفلح المؤمنون... حتى على صلواتهم يحافظون}. وقالت: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

ومرة أخرى.. ما قيمة هذه الصفات في ذاتها؟ ما قيمتها في حياة الفرد، وفي حياة الجماعة، وفي حياة النوع الإنساني؟

ونحن هنا نقف مع صفة واحدة، ألا وهى قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، يقول الطبرى فيها: والذين هم عن الباطل وما يكرهه الله من خلقه من المعاصى معرضون، قال ابن زيد، في قوله: ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) قال: النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من صحابته، ممن آمن به واتبعه وصدقه كانوا " عن اللغو معرضون".

 يقول السعدى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ} وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة، {مُعْرِضُونَ} رغبة عنه، وتنزيها لأنفسهم، وترفعا عنه، وإذا مروا باللغو مروا كراما، وإذا كانوا معرضين عن اللغو، فإعراضهم عن المحرم من باب أولى وأحرى، وإذا ملك العبد لسانه وخزنه -إلا في الخير- كان مالكا لأمره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين وصاه بوصايا قال: " ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه وقال: " كف عليك هذا " فالمؤمنون من صفاتهم الحميدة، كف ألسنتهم عن اللغو والمحرمات. قول ابن كثير: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} أي: عن الباطل، وهو يشمل الشرك، كما قاله بعضهم، والمعاصي، كما قاله آخرون، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراما)،ي قال قتادة: أتاهم والله من أمر الله ما شغلهم عن ذلك.

وقد أورد البغوى عن الزجاج، عن اللغو: عن كل باطل ولهو وما لا يحل من القول والفعل) ثم قال: هو معارضة الكفار بالشتم والسب، قال الله تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا كراما" أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.

ويقول سيدنا فى ظلاله: {والذين هم عن اللغو معرضون} لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام، والشعور. إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر.. له ما يشغله من ذكر الله، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق. 

وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب، ويشغل الفكر، ويحرك الوجدان.. وله ما يشغله من تكاليف العقيدة،تكاليفها في تطهير القلب، وتزكية النفس وتنقية الضمير، وتكاليفها في السلوك، ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان. وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف. وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها، والسهر عليها من كيد الأعداء.. وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه منها، وهي مفروضة عليه فرض عين أو فرض كفاية. وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري. والطاقة البشرية محدودة. وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها; وإما أن تنفق في الهذر واللغو واللهو. والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح.

ولا ينفي هذا أن يروح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين. ولكن هذا شيء آخر غير الهذر واللغو والفراغ..