ماذا أعنى بالاستيعاب ؟

أعنى بالاستيعاب قدرة الدعاة على اجتذاب الناس وربحهم على اختلاف عقولهم وأمزجتهم وطبقاتهم وثقافاتهم الخ ...

فالناس يختلفون اختلافا نوعياً في كل شئ .. في نمط التفكير في مستوى العيش في مركب المزاج في معيار الذكاء وفي كافة القدرات الحسية والنفسية ..

والداعية الناجح هو القادر على الإيغال والتأثير بدعوته وفكرته في الناس، كل الناس، على اختلاف مشاربهم وطبائعهم ومستوياتهم، وعلى اجتذاب مساحة كبرى من الجماهير واستيعابها فكرياً وحركياً .

وبذلك يكون الاستيعاب قدرة شخصية، ومؤهلة خلية، وصفة إيمانية، ومنة ربانية، تساعد الدعاة وتجعلهم منارات هدى في مجتمعاتهم وأقطاب رحى في مواطنهم يستقطبون الناس ويلتف من حولهم الناس ..

والحقيقة أن القدرة على الاستيعاب تعتبر المؤهل الأول والأهم في شخصية الداعية.. وبدونها لا يكون داعية ولا تكون دعوة ..

تفاوت القدرة على الاستيعاب :

والذي لا شك فيه أن الدعاة كبقية الناس يتفاوتون في قدراتهم على الاستيعاب .. ولكن الذي لابد منه كذلك أن يتمتع كل داعية بحد أدنى من القدرة على الاستيعاب لأنه بغيرها لا يكون داعية أو عاملاً في إطار الدعوة ...

إن عدم توفر الحد الأدنى من القدرة على الاستيعاب قد لا تجعل الداعية عقيم الإنتاج عديم الفائدة فحسب، بل قد تجعله مسيئاً للإنتاج، مسبباً الضرر للإسلام والحركة على حد سواء ...

فكم من أناس اعتبروا دعاة أو عاملين في الحقل الإسلامي أضروا ولم ينفعوا، وهدموا ولم يبنوا، ونفروا ولم يبشروا، وكانوا حجة على الدعوة بين أبنائها وأعدائها ..

وكم من آخرين عاشوا في أجواء الدعوة ونهلوا من مبادئها ولكن دون أن ينقلوا أجواءها ومبادئها خطوة واحدة خارج إطارها .

وهناك آخرون كانوا في الدعوة وكانت بهم الدعوة وعاشوا فيها وعاشت بهم .. أولئك هم الدعاة حقاً، وأولئك هم رجالها والذين يحتاج الإسلام إليهم وإلى أمثالهم لرفع رايته وبناء دولته وإقامة حجته على العالمين ..

وتفاوت القدرة على الاستيعاب في الناس كتفاوت القدرة على ذلك الآنية فهناك إناء واحد يمكن أن يستوعب مالا تستوعبه مئات الآنية الأخرى، كما أن هنالك داعية يمكن أن يستوعب من الناس ما لا يقدر على استيعابه مئات العاملين في الحقل الإسلامي ..

ففي معرض الإشارة النبوية إلى تفاوت أثر العلماء مثلاً في استيعاب الناس روى معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهله قربة ..

لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة قائمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم وينتهي إلى رأيهم .. ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة ... الحديث ))

وفي حديث آخر رواه أبو موسى الأشعرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس؛ فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثنى الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ))

الاستيعاب ونجاح الدعوة :

والعلاقة بين الاستيعاب ونجاح الدعوة علاقة جذرية إذ لا نجاح بدون قدرة على الاستيعاب .. والدعوة الغنية بالدعاة القادرين على اجتذاب الناس إلى الإسلام وإلى الحركة يصبح حظها من النجاح ومن تحقيق أهدافها قوياً إذا ما توفرت لها المناخات اللازمة والشروط الأخرى ..

وعكس ذلك كذلك حيث أن الدعوة الفقيرة بالدعاة القادرين على استيعاب من حولهم قد تبقى عقيمة محدودة الانتشار والآثار إلى أن يقبض الله لها رجالاً تتوافر لديهم أسباب الهداية والتأثير والاستيعاب أو يستبدلها بدعوة أخرى لا تكون مثلها وتلك سنة الله { ولن تجد لسنة الله تبديلاً } { ولن تجد لسنة الله تحويلاً } وصدق الله تعالى حيث يقول { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } .

الاستيعاب الخارجي والداخلي :

أعنى بالاستيعاب الخارجي استيعاب من هم خارج الدعوة والحركة والتنظيم، أي قبل مرحلة الانتماء والانتظام، أما الاستيعاب الداخلي فهو استيعاب الناس داخل التنظيم أي استيعاب المنتظمين والملتحقين بالعمل الإسلامي والحركة ..

إن كلا المجالين يتمم بعضه بعضاً وكلاهما مهم ويحتاج إلى قدرة فائقة على الاستيعاب ونجاح الدعوة والداعية مشروط بامتلاك زمام المجالين والتفوق في المحيطين معاً إذ لا قيمة للاستيعاب الخارجي إن لم يلازمه استيعاب داخلي ..

إن الاستيعاب الخارجي أشبه بتسوق المواد الخام وتهيئتها وتحضيرها من أجل أن تبدأ مرحلة جديدة هي مرحلة صناعتها وتصنيعها .. وعملية الاستيعاب الداخلي .. أي التصنيع هي التي تحفظ الخامات من التلف وهي بالتالي التي تعطيها القيمة حيث تصبح قادرة على أن توظف في مجالات العمل الإسلامي المتلفة ..

وإلا .. فما قيمة أطنان من الحديد والأسمنت والرمل إن لم تتوفر (ورشة) العمل التي تحيلها أبنية وجسوراً ومرافق عامة ؟؟ وما قيمة أكداس من الخضار والزيوت والأسماك والحبوب إن لم يتوفر الطهاة الذين يصنعون منها الأطعمة والمآكل الشهية ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

من هنا يمكن القول بأن الاستيعاب الخارجي هو عمل استقصائي توجيهي تحضيري في حين أن الاستيعاب الداخلي هو عمل تكويني تصنيعي أساسي .. وإن لكل مجال من هذين المجالين متطلبات وشروطاً تبعاً لمهمة وأهداف كل منهما ..

الاستيعاب الخارجي

إن حمل الدعوة إلى الناس وجعلهم يؤمنون بها ويثقون ويتأثرون ومن ثم يلتحقون ويعملون ويجاهدون ويضحون عملية صعبة وشاقة وتحتاج إلى قدرات ومتطلبات مختلفة ..

ومن توفرت فيه هذه الشروط أو أكثرها كان داعية موفقاً ناجحاً قادراً على استيعاب الناس واستقطابهم حول الإسلام وحول الدعوة وبقدر تكاثر هذه العينات من الدعوة بقدر ما يكون استيعاب الدعوة للناس أكبر وأثرها فيهم أبعد وأكثر ..

ومن خلال كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وفى ضوء السنة النبوة الشريفة يمكننا تحديد أبرز المتطلبات التي يحتاجها الدعاة في عملية الاستيعاب والاستقطاب هذه ..

منقول بتصرف من كتاب – الاستيعاب في حياة الداعية – للأستاذ فتحي يكن رحمه الله .