والوقت عندنا جزء من العلاج، والطريق طويلة المدى، بعيدة المراحل، كثيرة العقبات، ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود، مع عظم الأجر، وجميل المثوبة، وذلك أن كل وسيلة من وسائلنا الست تحتاج إلى حسن الإعداد، وتحين الفرص، ودقة الإنفاذ، وكل ذلك مرهون بوقته: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء:51).

لقد أوضح لنا الإمام الشهيد أننا سنلقى خصومة من كثير من الأعداء، وأننا سنتعرض للاعتقال والتشريد، وتفتيش البيوت ومصادرة الأموال، وذلك قبل أن يحدث شيء من ذلك بسنوات.

وهذا التوضيح المسبق لطريق الدعوة كان لازمًا لتوطين النفس وتهيئتها لمواجهة هذه المحن بعزم صادق، ويقين بأن هذه المحن هي سنة الله في الدعوات الحقة، وقال لنا الإمام الشهيد: إنه عندما يحدث لنا ذلك نكون قد بدأنا نسلك سبيل أصحاب الدعوات، وأنه قد يطول بكم هذا الامتحان؛ فهل أنتم مصرون على أن تكونواْ أنصار الله؟.(انظر رسالة: بين الأمس واليوم).

وقد خبرنا طريق الدعوة وفي أثناء المحن والفتن قعد البعض أمام بعض العقبات، كما انحرف البعض عن الطريق، ولكن كان الثبات أمرًا مهمًا، وخاصة أثناء المحن وعند الجهاد وملاقاة الأعداء، و في قصة طالوت وجالوت خير مثال لتخطي العقبات وضرورة الثبات ومواصلة السير، وعند مواجهة العدو سألواْ الله الصبر والثبات: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (البقرة:251،250).

*وعلينا أن نسأل الله دائمًا وأبدًا الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، فيا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ﴾ (إبراهيم:27).

ولا شك أن الإيمان الصادق هو خير عون لصاحبه في الصبر، وتخطي العقبات، وهو الذي يعين صاحبه على مواصلة السير على الطريق، مهما طال وقته وكثرت عقباته؛ فما عند الله خير وأبقى.

*كما أن رابطة الأخوة في الله على طريق الدعوة تعين سالكي الطريق على مواصلة السير؛ حيث يتوفر بينهم التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والذكرى التي تنفع المؤمنين، والمرء كثير بإخوانه، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، ولقد كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يمر على آل ياسر وهم يعذبون فيقول لهم:"صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة". (سيرة ابن هشام).

وكان يبشر المؤمنين بأن الله ناصر دينه ومتمن نوره ولكنهم يستعجلون.

*وفي عصرنا هذا تعرض الإخوان وغيرهم من الدعاة إلى الله إلى محن شديدة، وإلى تعذيب وقتل، ولكن الله صبرهم وثبتهم، وانتشرت دعوتهم حتى عمت أقطارًا كثيرة، وما هذه الصحوة الإسلامية إلا ثمرة، ثمار هذا الصبر وهذا الثبات، ونحسب أن هذه الصحوة ستؤتي ثمارها الطيبة بإذن ربها.

منظمًا في شئونه

*وعلى الأخ رجل العقيدة أن يكون منظمًا في شئونه: فهذه النعم التي أنعم الله علينا بها من وقت وصحة ومال علم وغير ذلك تستلزم أن نقدرها حق قدرها، وأن نحسن استغلالها، وألا تضيع سدى، ولا يكون ذلك إلا بالدقة والتنظيم لهذه الشئون خاصة وأن الواجبات أكثر من الأوقات، وإذا لم يكن الأخ منظمًا سيفقد الكثير من وقته وجهده.

كذلك الشئون المالية يراعى التوزيع الحسن لها الأهم فالمهم، وباقي أموره يجب أن تكون منظمة بعيدة عن الفوضى والارتجال؛ فهذا يوفر عليه الكثير من وقته وماله وجهده، هكذا الأخ منظمًا في كل شئونه في بيته وعمله ومكتبه وكل شئونه.
• محبًا لإخوانه واثقًا في طريقه

الأخوة في الله نعمة كبرى بعد نعمة الإسلام ذكر الله لنا ذلك في قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا﴾ (آل عمران:103).

ويقول تعالى منفرًا من الفرقة: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران:105)، ويقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:63،62).

فالأخوة والوحدة رمزا الإيمان والقوة، والتفرق والتنازع رمزا الفشل والكفر. فالحب والأخوة في الله بين قلوب المؤمنين العاملين في حقل الدعوة وعلى طريق واحد هو أقوى الروابط يجمع العاملين في صف واحد يشد بعضه بعضًا كُلٌ يفتدي أخاه بنفسه ويؤثره على نفسه وهم على طريق الدعوة وفي ميادين الجهاد كالبنيان المرصوص لا ينفذ العدو بينهم. هكذا كان المسلمون الأول وكان المهاجرون والأنصار.

وتحكي لنا السيرة العطرة عندما آخى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار كيف كان الأنصاري يؤثر أخاه المهاجر على نفسه، وسجل لهم القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر:9).

وهكذا أعدهم الله على يد رسوله-صلى الله عليه وسلم-بقوة الإيمان أولاً، ثم بقوة الحب والوحدة ثانيًا، استعدادًا لمرحلة الجهاد والدفاع عن الإسلام الذي يستلزم التضحية بالنفس والمال وإيثار ما عند الله، ويستلزم تلاحم الصفوف في مواجهة الأعداء: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ (الصف:4).

وهكذا اقتبس الإمام الشهيد "حسن البنا" هذا الطريق من سيرة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فركز على قضية الإيمان، واهتم كثيرًا بالتربية وإعداد الفرد المسلم، ثم اهتم بقضية الحب والأخوة وجعلها ركنًا من أركان البيعة وجعل أدنى مراتبها سلامة الصدر وأعلاها الإيثار وسمى الجماعة (الإخوان المسلمين) لتحمل معنى الأخوة مع الإسلام.
وهيأ النفوس للجهاد في سبيل الله وضرب المثل في ذلك عمليًا في حرب فلسطين، وكانواْ مثالاً رائعًا للفداء والتضحية مما أزعج الصهاينة إزعاجًا شديدًا، لذلك نجده رضوان الله عليه يقول تحت عنوان الأخوة عند ذكره لأركان البيعة في رسالة التعاليم:

(وأريد بالأخوة: أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخوة الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر وأعلاه الإيثار: ﴿وَمَن يُّوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر:9).

والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه؛ لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونواْ به كانواْ بغيره، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة:71).

ورسولنا-صلى الله عليه وسلم- يربط الإيمان بالحب فيقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (البخاري ومسلم).

ويقول: "لا تدخلواْ الجنة حتى تؤمنواْ، ولا تؤمنواْ حتى تحابواْ، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشواْ السلام بينكم".(مسلم).

لقد تذوقنا حلاوة هذه النعمة نعمة الأخوة في الله، في أوقات الشدة وأوقات العافية، أثناء المحن والابتلاءات والإعنات في السجون والمعتقلات، فكان الحب والأخوة بعد الإيمان والصبر خير دواء وراحة في هذا الجو من الإيذاء والتعذيب.
ثم إن الأخ إذا لقي أخًا له في الله في أي بلد في أثناء سفره كان له كالواحة الخضراء وسط الصحراء خاصة في بلاد الكفر، حقًا إنها نعمة من الله.

وقد قرأت أن أحد أصحاب الملايين مات منتحرًا، وكتب خطابًا ذكر فيه أن كل من يتصلون به إنما طمعًا في ماله فلم يشعر بأنس مع أحد منهم، وشعر بوحشة، وضاقت به الحياة فانتحر.

هكذا لم يستطع بماله أن يكسب صديقًا خالصًا. ولكن الشيطان وأعوانه من الجن والإنس يغيظهم أن يجدواْ أبناء الدعوة متحابين مؤتلفين، فيحاولون النزع بينهم والتحريش فيما بينهم، وقد حذر الله المؤمنين من ذلك بقوله تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ (الإسراء:53).

وعلمنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الأمور التي نتعامل فيما بيننا بها لنحمي هذا الحب وتلك الأخوة من أن ينال منها الشيطان وأعوانه، فدعانا إلى إلقاء السلام كلما التقينا. ودعانا إلى التبسم في وجوه بعض. وأن نشمت العاطس. ونعود المريض. ونعين المحتاج.

وحتى إذا أخطأ أحدنا وجهنا إلى أسلوب التوجيه كما كان يفعل-صلى الله عليه وسلم- بما لا يُسيء إلى مشاعر أحد فيقول:"ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا" (البخاري ومسلم).

وقد أرشدنا بعض الأئمة الفضلاء إلى حكم طيبة في كيفية أداء النصيحة وكيفية استقبالها. فيقول أحدهم:(أدِ النصيحة على أكمل وجه واقبلها على أي وجه). ويقول آخر:(من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظ أخاه علانية فقد فضحه وشانه).

فليحرص كل منا على أخوته وحبه لإخوانه من أن ينال منها أحد، وإذا حاك في صدره شيء من أخيه فعليه أن يتبينه فربما كان هناك لبس أو خطأ في فهم وليقبل منه عذره إن اعتذر، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾ (النور:22).

فمن غفر لأخيه وعفا عنه عفا الله عنه. فلا يجوز لأخ أن يبقى وصدره غير سلم نحو أحد من إخوانه وإلا عرض نفسه للنكث في بيعته في ركن الأخوة.

ولنحرص على تمثل صفات المؤمنين مثل قوله تعالى: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح:29)، ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (المـائدة:54)، ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران:134).

 

منقول بتصرف من كتاب – مقومات رجل العقيدة – للأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله.