يظن كثيرٌ من الآباء أنّ بتوفيرهم المأكل والمسكن والملبس وتلبية احتياجات الأبناء المادية، أنهم بذلك قد أدُّوا واجبهم في الرعاية والتربية معًا، لكن الفرق بينهما شاسع؛ فالاهتمام بملابس الأولاد وأكلهم وصحتهم ونومهم يسمى "رعاية"، والاهتمام بدينهم وعقولهم وأخلاقهم يُسمى "تربية"، ولا بُد من التوازن بينهما وفق منهج الإسلام.
إنّ الرعاية هي جزء بسيط من التربية، وتشمل أن يحصل الابن على متطلباته من الحياة، وأن يعيش حياة كريمة في ظل الاهتمام بصحته ومظهره، ورغم أهمية هذا الدور، فإن المربية قد تتكفل به، عكس التربية التي يقع مسئوليتها على عاتق الوالدين على مدى سنوات طويلة، وهي تشمل العديد من المفاهيم التي ترسخ فعل كل طيب، وترك كل سيئ.
الرعاية والتربية في الإسلام
ولقد أكد الإسلام أهمية كلّ من الرعاية والتربية والتوازن بينهما في إخراج أجيال صالحة نافعة لنفسها ولدينها، فأشار إلى أن رعاية الطفل تبدأ من كونه جنينًا في بطن أمه، يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 151]، فحرم الله- عز وجل- الإسقاط أو الإجهاض حتى لو باتفاقِ الزوجين، ما لم يكن هناك مانع صحي أو ضرر على الأم.
وأوجب الإسلام عدم تنفيذ العقوبة الشرعية على الأم الحامل إذا كانت تضر بحملها؛ فقد ثبت ذلك في قصة المرأة الغامدية التي حملتْ من الزنا؛ فقال لها الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "اذهبي حتى تَضعِي حملَكِ" (موطأ مالك).
واهتم الإسلام برعاية حقوق الطفل المالية، وأوجب الدِّيَة في قتلِ الجنين، كما أوجبَ له حقوقَه المالية من ميراث أو وصية، ونحوهما مما فصله العلماء ودوَّنوه في كتب الفقه والأحكام.
والنبي صلى الله عليه وسلم، يضرب لنا مثلا في أهمية الحفاظ على الأبناء ورعايتهم والرحمة بهم. فقد روى شداد بن الهاد الليثي-، "خرَجَ علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في إحدى صَلَاتَيِ العِشاءِ، وهو حامِلٌ حسنًا أو حُسينًا، فتقدَّمَ رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فوضَعَه، ثمَّ كبَّرَ للصَّلاةِ، فصلَّى، فسجَدَ بينَ ظَهْرَانَيْ صلاتِهِ سجدةً أطالَها، قال أَبِي: فرفَعْتُ رَأْسي، وإذا الصبيُّ على ظَهرِ رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وهو ساجِدٌ، فرجَعْتُ إلى سُجودي، فلمَّا قضَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال الناسُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّكَ سجَدْتَ بينَ ظَهْرَانَيْ صلاتِكَ سجدةً أطَلْتَها، حتَّى ظَنَنَّا أنَّه قدْ حدَثَ أمْرٌ، أو أنَّه يُوحَى إليكَ، قال: كلُّ ذلكَ لم يكُنْ، ولكنَّ ابْني ارْتَحَلَني، فكرِهْتُ أنْ أُعْجِلَهُ حتَّى يَقضيَ حاجتَهُ” (النسائي).
وعن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-: “جَاءَ أعْرَابِيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَما نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوَأَمْلِكُ لكَ أنْ نَزَعَ اللَّهُ مِن قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ!” (البخاري).
وحينما جاء أحدُ الصحابة- رضي الله عنهم- إلى النّبي- عليه الصَّلاة والسَّلام- ليُشهدَه على هديةٍ أعطاها لأحد أبنائه، فقال له النبي- عليه الصَّلاة والسَّلام-: “أَكُلَّ بَنِيكَ قدْ نَحَلْتَ مِثْلَ ما نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟ قالَ: لَا، قالَ: فأشْهِدْ علَى هذا غيرِي، ثُمَّ قالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكونُوا إلَيْكَ في البِرِّ سَوَاءً؟ قالَ: بَلَى، قالَ: فلا إذًا” (مسلم).
وفصَّل النبي- صلى الله عليه وسلم- في عِظَم هذه المسئولية، بقوله: "كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، الإمامُ راعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ راعٍ في أهْلِهِ وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ في بَيْتِ زَوْجِها ومَسْئُولَةٌ عن رَعِيَّتِها، والخادِمُ راعٍ في مالِ سَيِّدِهِ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ قالَ: – وحَسِبْتُ أنْ قدْ قالَ – والرَّجُلُ راعٍ في مالِ أبِيهِ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، وكُلُّكُمْ راعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ” (البخاري).
وتشمل رعاية الطفل في الإسلام، الأذان في أذنه عند ولادته، واستحباب تحنيكه بالتمر، وحلق شعره للتصدق بوزنه ذهبًا، وتسمية الطفل بالأسماء الحسنة، والعقيقة، وإتمام فترة الرضاعة، والحضانة والنفقة، والتعليم، وحقه في الميراث، والعدل والمساواة داخل الأسرة بين الأبناء.
وبعد كل هذه الرعاية من جانب الإسلام للإنسان فإن التربية تفوق الرعاية في الأهمية، فأنبياء الله- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كانوا يدعون الله- عز وجل- بأن يصلح لهم في ذرياتهم وأن تكون تربيتهم على المنهج القويم. فقال تعالى عن الخليل إبراهيم- عليه السلام- وهو يدعو ربه بتلكم الدعوات: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [إبراهيم:40].
وها هو نبي الله زكريا – عليه السلام- يُنادي ربه قائلاً: (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَاءِ) [آل عمران: 38]. ودعا المؤمنون ربهم قائلين: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74].
والإسلام حمل الآباء على ضرورة الاهتمام بتربية الأبناء، ووضع لهم الطريق الذي يمشون عليه كي يصلوا للنتيجة المرجوة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور: 21].
واهتم النبي- صلى الله عليه وسلم- بتربية الأبناء على الإيمان، فها هو عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- حينما كان رديف النبي- صلى الله عليه وسلم- يوما على دابة وهو غلام، فخصه بدرس يعده أهل العلم من أمهات العقيدة والتربية الإسلامية، إذ قال: "يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رُفعت الأقلام وجفت الصحف” (رواه الترمذي).
وروى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقَدَحٍ، فَشَرِبَ منه، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ القَوْمِ، وَالأشْيَاخُ عن يَسَارِهِ، فَقالَ: يا غُلَامُ أَتَأْذَنُ لي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ، قالَ: ما كُنْتُ لِأُوثِرَ بفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يا رَسولَ اللَّهِ، فأعْطَاهُ إيَّاهُ”، فهذا موقف تربوي يكشف لنا عن حضور النبي الكريم في عالم الطفولة واحترام رأي الصغير.
فروق جوهرية بين الرعاية والتربية
وهناك فروق جوهرية بين الرعاية والتربية، فالأولى تعني الاهتمام بصحة الطفل وأمنه، وتوفير له الطعام والشراب والملابس، والاهتمام بالواجبات المدرسية، ويمكن أن ينوب أي شخص عن الأب والأم في هذه المهمة التي هي حق من حقوق الطفل.
لكن الرعاية بلا تربية تنتج رجالًا ضعيفي الشخصية، ونساء لا يتحملن المسئولية، وموظفين لا يحترمون أعمالهم، وتلاميذ يهربون من مدارسهم، سنجد مدينة يملئها القاذورات؛ لأنه لا أحد علّم طفل ألا يرمي شيئًا على الأرض؛ فالتربية: هي عملية التوجيه نحو الأخلاق الحسنة، والقيم والمبادئ الصالحة، وتعويده على عادات جيدة، وهي عملية بناء عنصر إيجابي في المجتمع، عنصر يُعتمد عليه في جميع نواحي الحياة، وتكوين عنصر مجتهد قادر على تحسين نفسه وتطويرها، وتتم على خمسة أمور:
أولًا: [بناء القناعات] وتشمل العقيدة.. المبادئ.. القيم.. الطموحات.. فهم الحياة.
ثانيًا: [توجيه الاهتمامات] وتشمل ما يشغل بال الإنسان وكيف يقضي وقت فراغه.
ثالثًا: [تنمية المهارات] بأنواعها المختلفة: رياضية، فنية، عقلية، اجتماعية، إدارية، علمية.
رابعًا: [فهم قواعد العلاقات] من تصاحب؟ من تتجنب؟ وكيفية بناء العلاقات وإصلاحها أو إنهائها.
خامسًا: [اختيار القدوات] وهم المُثل العليا الذين يتطلع إليهم الإنسان؛ ليصبح مثلهم، وكذلك فهم القوانين التي تحكم التعامل مع القدوات.
نصائح للموازنة بين التربية والرعاية
إن الموازنة بين الرعاية والتربية أمر ضروري للأبناء، فما قيمة توفير المأكل والمشرب والملبس دون التربية وتهذيب السلوك، ما قيمة تنمية ذلك الجسد الذي لا يعلم خيرا ولا يُنكر شرا، ولا يعمل من أجل رضا الله سبحانه وتعالى ثم الجنة، فإذ كانت رعاية الطفل تعني حمايته من المخاطر، فالتربية هي إعداده لمعرفة كيف يحمي نفسه من مصير السوء في الدنيا والآخرة.
فلا بد من أن يدرك الآباء والأمهات والمربون أهمية التوازن بين رعاية الطفل وتربية، ومعرفة أن التربية ليست توفير الاحتياجات الأساسية، فهذه رعاية ضرورية ومسؤولية جسيمة وحق من حقوق الأطفال، لكن التربية هي السلوك والتعامل والأخلاق والدعم وتعزيز سلوكيات الطفل الإيجابية، وتحفيزه على المشاركة، وتوفير الفرص التي تسهم في التنمية المعرفية وتنمية الشخصية ومهارات التفكير.
وتتطلب تلك الموازنة ألا يستغرق الآباء في رعاية الأبناء طوال فترات حياتهم الدراسية على حساب التربية، فيفقد بذلك الطفل- الذي أصبح شابا- قدرته على اتخاذ القرارات الخاصة به دون الرجوع إلى الأب أو الأم.
ومن المهم ألا يسند الأب أو الأم مهمة التربية للمربيات في المنزل، فهذا من شأنه إكساب الأبناء مهارات القيام بالأعمال المنزلية، وليس من شأنه تهذيب السلوك وتقويمه وغرس القيم التربوية الإسلامية في نفوسهم.
ولا بد من أن يصبح كلٌّ من الوالدين قدوة حسنة للأبناء في جميع نواحي الحياة، وعليهم مساعدة أبنائهم على اكتشاف مواهبهم ونقاط قوتهم، ليصيروا أفرادًا مُبدعين في المجتمع، يستطيعون شغل وقت فراغهم في عمل مفيد.
ويجب على الآباء الاهتمام بتربية الأبناء تربية دينية، وأن يكونوا قدوة لهم في الحفاظ على الصلاة في موعدها، والحفاظ على صلاة الجماعة في المسجد، والمواظبة على قراءة القرآن الكريم يوميًّا، كما يحرصون على توفير المأكل والمشرب والملبس لهم في حدود المستطاع.
وعلى الآباء أن يحرصوا على زراعة المبادئ والقيم الحميدة في نفوس أبنائهم، وتربيتهم على عدم الكذب ومساعدة الآخرين، والرفق بالحيوان، كما يجب عليهم عدم إيذاء أطفالهم إيذاءً نفسيًّا أو بدنيًّا، وعدم إنذارهم أو تهديدهم، وبخاصة أمام أحد.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك؛ بل لا بُد للآباء من الإجابة عن كل الأسئلة التي يطرحها الطفل مهما كانت تافهة، والحرص على بناء شخصية مستقلة له وأخذ رأيه في كل ما يخصه مهما كان صغر سنه.
ودور التربية هي زراعة القيم في الطفل؛ كي يحترم الصغير الكبير، ويعطف الكبير على الصغير، وأن تُزرع فيه الثقة بالنفس.
والقيم والمبادئ لا تخص الأبناء فقط، لذلك عليكَ كمربٍّ أن تصبح قدوة لأبنائك.. لا تكذب أمامهم حتى لا يكذبون؛ واحترم عقولهم وخصوصياتهم، حتى لا يقتحموا خصوصياتك؛ ولا تتسلط على الأبناء أو تخوّفهم.
وعندما تكون رعاية الطفل بلا تربية؛ تُؤدي إلى خلق كائن أنانيّ لا يهمه في الكون سوى نفسه فقط، ستجده ابنًا عاقًا بوالديه، لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية، ولا يُعتمد عليه في شيء، وينتج عنها أشخاص بلا موهبة وبلا إبداع.
من هنا، فإن الرعاية والتربية يختلفان في المعنى والمقصود والأهمية، فالأولى يُمكن التفويض فيها أو جزء منها؛ ولكن التفويض في الثانية لا يكون إلا في أضيق الحالات وبحذر شديد؛ لأن الطفل يعتاد ما يراه ويقتدي به، والتربية في الأساس واجب الأم والأب أولي الأمر، ويُساعدهم المربون المخلصون في ذلك.