الداعية بين الفهم والتطبيق                       

في رأيي أن مسئولية الدعاة تُجاه أنفسهم أضخم بكثير من مسئولياتهم تُجاه المجتمع... وخطورة التقصير فيما للدعاة على أنفسهم من واجبات يفوق خطورة التقصير فيما للمجتمع عليهم من حقوق؛ فالدعاة ينبغي أن يكونوا قدوة حسنة للمجتمع الذي  يعيشون فيه... تبدو في حياتهم آثار الرسالة التي يدعون الناس إليها... وترتسم في خطاهم ملامح المبادئ التي يحملونها... وبذلك يحس كل من حولهم ويشعر بالوجود الحركي لهذا الدين وبالتحرك العضوي له، وفي هذا ما فيه من أثر بالغ في مجالات الدعوة والتبليغ . ولقد صفع القرآن الكريم أولئك الذين يعظون الناس ولا يتعظون وينهونهم ولا ينتهون؛ فقال تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون }.{يا أيها الذين آمنوا لم تقولون  ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.ومن هنا كان على الداعية أن يبدأ بنفسه أولا ...

الفهم الصحيح :

يبدأ بفهم الإسلام فهما صحيحاً عميقاً من أصوله ومنابعه الأولى... من القرآن الكريم والسنة المطهرة ومن السيرة النبوة المعطرة... ثم ما تذخر به المكتبة الإسلامية الحديثة من مؤلفات قيمة ثمينة حتى يتكون لديه تصور صحيح عن هذا الدين... عن أحكامه وتشريعاته... وعن خصائصه وميزانه... وعن عقائده وعبادته... وعن أهدافه وغاياته في النفس والمجتمع والدولة... وعلى الداعية أن يكون مطلعاً على حياة النبوة والأنبياء من خلال المواقف والأحداث، والصبر والثبات، والبذل والجهاد من خلال السلوك، والمعاملة والخلق والعبادة .

وأن يوجه اهتمامه بصورة خاصة إلى القرآن :ربيع قلبه، ونور بصيرته، ومنهج حياته ...وأن يكون تلقيه لاّيات الله وتأثره بها كمن يهبط عليه الوحي لأول مرة  فيدرك أنه المقصود بكل خطاب.... وأنه المعني في كل أمر ... وهذا ما يحقق التفاعل معه، والتأثر به، والاندماج في أجوائه، والإفادة منه . وإنما تستوي قلوب الدعاة وتثبيت أقدامهم وتستقيم حياتهم بقدر ما يتسع اطلاعهم على هذا القرآن، ويعمق فهمهم له، وبقدر تفاعلهم مع الدين، وتأثرهم به وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) وقوله صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إن فقهوا )........والنفوس من الإسلام كالتربة من المطر ... ومنها ما لا تنتفع به ولا تنفع .

ولقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك مثلا فقال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها (نقية) قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ...وكانت منها (أجادب )أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ... وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي(قيعان ) لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني به فعلم وعلم .... ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ...)

وحري بالدعاة أن يبادروا إلى تعلم الإسلام شباباً مبكرين قبل أن تمتصهم المشاغل وتضيق بهم الأوقات... ورضي الله عن المهلب حيث يوصي أولاده فيقول :(تعلموا قبل أن تسودوا حتى لا تشغلكم السيادة عن العلم....).

التفاعل والتطبيق : -

وإذا كان الدعاة بحاجة إلى الفهم السليم عن الإسلام والتصور الكامل له فهم إلى التفاعل معه أحوج، إنهم بحاجة إلى التطبيق العملي لمبادئه وأفكاره وسلوكه لتكون حياتهم ترجماناً مبيناً لمنطوق الإسلام صورة كريمة لمعطياته ....

إن على الدعاة أن يترسموا خطى الدعوة في كل شأن من شئونهم ... في أقوالهم وأفعالهم في حياتهم الخاصة والعامة، في أنفسهم كأفراد، وفي بيوتهم كأزواج وآباء وفي مجتمعاتهم كعمال أو أرباب عمل أو موظفين، وهذا ما يؤكد عليه علي بن أبى طالب كرم الله وجهه بقوله : (من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم ).

وهل يجنى الذين يقولون ما لا يفعلون ويعظون ويرشدون ولا يسترشدون إلا سخرية العباد وسخط رب العباد، يخسرون دينهم ودنياهم، وذلك هو الخسران المبين قال الشعبي : ( يطلع يوم القيامة قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم : ما أدخلكم النار وإنما أدخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم ؟ فيقولون : إنَّا كنا نأمر بالخير ولا نفعله وننهي عن الشر ونفعله )

ومن هنا كان من واجب الدعاة أن يتشددوا بالحساب على أنفسهم ويأخذوا ذواتهم بالعزائم حتى تستقيم على طاعة الله عز وجل .

 ورُوي أن الله تعالى قال لعيسى عليه السلام : ( يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي منى ) .

بين السر والعلانية : -

وليكن الداعية أحرص على إصلاح سره منه على إصلاح جهره، وليكن اهتمامه بنظافة باطنه أكثر من اهتمامه بنظافة ظاهرة وحبذا لو تحقق الاثنان . على الداعية أن يكون صريحاً مع نفسه فلا يخادعها ومع الناس فلا يرائيهم، ولا ينافقهم، وليسمع كل داعية ما يقوله ابن السماك في هذا المعنى : ( كم من مذكر بالله ناس لله بعيد عن الله، وكم من داع إلى الله فار من الله، وكم من تال لكتاب الله منسلخ عن آيات الله ) . فالداعية ينبغي أن يخشى الله لا الناس، ويخلص له في سره وجهره فلا يكون في ظاهره ملاكاً، وفي باطنه شيطاناً، وليحذر أن يكون ممن عناهم الله بقوله: { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم } وليعلم أن الله قريب منه مطلع عليه يعرف سره ونجواه { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما  كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم }.

ورحم الله رابعة حيث كانت تردد:

       إذا ما قال لي ربى          أما استحييت تعصيني

       وتخفي الذنب من خلقي     وبالعصيان تأتيني

       فما قولي له لما            يحاسبني   ويقصيني

وصفوة القول في هذا أن مسئولية الدعاة تُجاه المجتمع يجب ألا تشغلهم عن مسئوليتهم تجاه أنفسهم، وانشغالهم بإصلاح الناس ينبغي أن لا يصرفهم عن إصلاح حالهم، وواجبهم أن يؤدوا المسئولية حقها في أنفسهم وفي مجتمعهم .

منقول بتصرف من كتاب "مشكلات الدعوة والداعية” للأستاذ فتحي يكن - رحمه الله.