ثانياً: القدوة الحسنة

والداعية لا بد أن يكون قدوة حسنة في الناس؛ كيما يتمكن من التأثير فيهم واستقطابهم واستيعابهم؛ فالناس لا يتأثرون بلسان المقال بقدر ما يتأثرون بلسان الحال .

فالذي يدعو الناس إلى مكارم الأخلاق وأخلاقه سيئة لن تكون دعوته مستجابة ولن يلقى إلا الصد والأعراض ..

والذي يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الله دون أن يكون مجاهداً أو على ثغرة من ثغور الجهاد لن يتجاوب الناس مع دعوته وادعاءاته ..

والذي يحض الناس على البذل والتضحية والعطاء، وهو شحيح، لن يلقى أذناً صاغية في الناس أجمعين ..

والذي يدعو الناس إلى التواضع وهو مختال فخور، وإلى الإيثار وهو صاحب أثرة، وإلى الصدق وهو كذاب، وإلى الأمانة، وهو خائن، وإلى الاستقامة وهو منحرف، وإلى الطاعة وهو عاص، وإلى التماس الحلال الطيب وهو غارق في المحرمات والخبائث .. إن إنساناً كذلك قد يتمكن من خداع الناس حيناً، ولكنه لن يتمكن من خداعهم في كل حين .

أعرف إنساناً من أصحاب العمائم بل كان صاحب العمة الوحيد في قريته .. كانوا ينتظرون عودته من الدراسة الشرعية بفارغ الصبر ليكون فيهم إماماً ولهم مرجعاً .. وعندما عاد تمنوا لو أنه لم يعد .. كان لسانه فيه سليطاً بذيئاً لا يتورع عن التلفظ بأبذأ العبارات، وعن أكل أموال الناس بالباطل .. حتى بلغ به السوء أنه خرج مع رفيقين له من أبناء القرية لجمع التبرعات من بلد عربي وحدثني أحدهما قائلاً : قبل أن تهبط بنا الطائرة في البلد المقصود التفت إلينا (صاحب العمة ) قائلاً : أود أن تعلموا منذ الآن أنني سأقتطع لنفسي نصف التبرعات ولكما الربع والمتبقي يكون لمشروع بناء المسجد .. والتفت إليه محدثي قائلاً : ألا تتقى الله يا شيخ وأنت بين يديه وهو قادر على أن يجعلك رماداً في أقل من لحظة ..

المهم أن هذا الرجل عندما تكشفت لقريته أخلاقه نبذه الناس فارتحل إلى المدينة.. وفي المدينة استمر على نفس السيرة والسريرة دون أن يتعظ فنبذه الناس فارتحل إلى بلد أجنبي بعيد وأدخل في ورع الجالية الإسلامية هناك أنه إمام المسلمين بلا منازع قبل أن يكشفوا حقيقته، ويكتشفوا أمره .. والقصة مليئة بالشجون ..

إن أمثال هذا الرجل في الناس كثير، وهذا ما جعل هؤلاء حجة لضعفاء الإيمان على الإسلام وعلى الدعوة، بل وجعل أعمالهم وأفعالهم ذريعة للمترخصين وفتنة للكثيرين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..

إن استقامة الداعية هي سر نجاح دعوته، وهي المؤهل الأهم لإمامته، وهي العامل الأقوى في هدايته .. وصدق الله العظيم حيث يقول { فلذلك فادع واستقم كما أمرت } .

والقرآن الكريم يذخر بتهديد ووعيد من يخالف فعله قوله والذين يقولون ما لا يفعلون .. ويقول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون } .

{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } وفي كتب الحديث عشرات الروايات التي تحض على تطابق الظاهر مع الباطن والقول مع الفعل .. كما تنذر وتحذر المعرضين عن ذلك بالعواقب الوخيمة والعقوبات العظيمة ..

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)) ((إن أناساً من أهل الجنة ينطلقون إلى أناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمناه منكم: فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل )) .

((مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضئ للناس ويحرق نفسه )) .

((إنى لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً .. فأما المؤمن فيحجزه إيمانه وأما المشرك فيقمعه كفره .. ولكن أتخوف عليكم منافقاً عالم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون )) .

(( إن الرجل لا يكون مؤمناً حتى يكون قلبه مع لسانه سواء ويكون لسانه مع قلبه سواء، ولا يخالف قوله عمله، ويأمن جاره بوائقه)).

إن الدعوة الإسلامية حين تبتلى بأشخاص من هذا الشكل تصبح معرضة للبوار .. أناس فيها يبنون، والآخرون يهدمون، وأناس يجمعون، وآخرون يفرقون، وآخرون يحببون، وغيرهم يكرهون .

من هنا وجب على الدعوة أن تنقى صفوفها من مرضى الانفصام كائناً ما كانت مراكزهم ومراتبهم، وكائناً ما كانت قدراتهم التنظيمية والإدارية والفكرية لأن ضررهم سيكون أكبر من نفعهم، ويكفي أنها لن تكون بهم على هدى من الله وتوفيق ..{ ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.

 

منقول بتصرف من كتاب – الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية – للأستاذ فتحي يكن رحمه الله .