ننقل بتصرف كلام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية  فيقول:

الحركة الإسلامية والحوار مع الآخرين

على الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة ألا تنحصر في خطابها لنفسها، بل توسع أفقها لتخاطب غيرها.

فكثير من المفكرين والكتاب الإسلاميين يكتبون لأنفسهم، أعني لمن يسير في خطهم، ويدعو بدعوتهم، فهم لا يتجاوزون خطاب بعضهم لبعض، كأنما لا يوجد في الدنيا غيرهم! فإن خرجوا من هذه الدائرة كتبوا للفصائل الإسلامية الأخرى، التي تشاركهم الالتزام بالإسلام والدعوة إليه، وإن خالفتهم في المنهج والوسائل والكثير من المفاهيم.

فإن تجاوزا ذلك خاطبوا جماعة المتدينين، وإن لم ينتموا لأي جماعة أو حركة.

وأولى بالحركة بعد أن بلغت أشدها، واتسعت قاعدتها أن توجه خطابها إلى المخالفين لها في الفكر والاتجاه، ولا تدعهم في ضلالهم القديم، وجهلهم الموروث، وسوء ظنهم، بالإسلام ودعاته، دون أن تقدم لهم أي شمعة أو مشعل يضيء على الطريق.

لقد آن للحركة الإسلامية أن تدع الانغلاق على الذات، وتخرج من القوقعة، وتعتبر كل المفكرين المسلمين منها ولها، وتخوض بهم ومعهم لجة الحوار مع كل الأطراف المخالفة، بل حتى المعادية والحاقدة. فلعل الحوار العلمي الهادئ الهادف يجعل المتردد يقتنع، والخائف يطمئن، والمتوتر يهدأ، حتى الحاقد والمعادي قد يخفف من حقده وعداوته. والله تعالى يقول: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة، والله قدير، والله غفور رحيم) (الممتحنة: 6).

أذكر أنني منذ سنوات دعيت إلى المشاركة في ندوة (الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي) التي نظمها (منتدى الفكر العربي) في العاصمة الأردنية عمان.

وقد دعي إلى هذه الندوة مسلمون ونصارى وشيوعيون وقوميون من مختلف الفصائل والاتجاهات.

وكان من رأي بعض الإخوة والزملاء الذين حدثتهم في أمر هذه الندوة ألا أذهب إليها ولا أشارك فيها، حتى لا يستغل اسمي ووجودي في إضفاء الشرعية على مثل هذه الندوات، التي لا تلتزم الخط الإسلامي الصحيح.

ولكني لم أستجب لهذه التخوفات والوساوس، التي تتوجس من كل شيء، ولبيت الدعوة وأعددت بحثي الذي نشر في كتاب مستقل بعد ذلك، وكان لمشاركتي ومشاركة عدد من الإسلاميين مثل د. الترابي، وفهمي هويدي، وكامل الشريف، أكبر الأثر في إسماع صوت الفكر الإسلامي ممثلا في تيار الوسطية الإسلامية، الذي أؤمن به وأدعو إليه، ورغم قلة عدد الإسلاميين كان تأثيرهم أقوى، وصوتهم أعلى.

ومما لا أنساه ما ذكره لي بعض الأخوة المشاركين وهو نصراني قومي، فقد قال لي ونحن على مائدة الغداء: لقد غيرنا فكرتنا عنك على طول الخط. قلت: وماذا كانت فكرتكم؟ قال: أنك متعصب متشدد! قلت: ومن أين جاءتكم هذه الفكرة عني؟ قال: لا أدري ولكن هذا كان انطباعنا عنك ورأينا فيك بصراحة. قلت: والآن؟ قال: عرفنا بالسمع والمشافهة والمشاهدة والاحتكاك المباشر ما نسف تلك الفكرة الظالمة التي كوناها عنك من قبل. فقد وجدنا فيك رجلا يحترم المنطق، ويحكم العقل، ويستمع إلى وجهات النظر المخالفة، لا يتزمت ولا يتشنج، بل فاق غيره في المرونة والتسامح… الخ.. ما قال.

المهم من هذه القصة أن اللقاء المباشر والأخذ والعطاء والحوار المتكافئ في حكمة وسماحة، هو في صالح الحركة الإسلامية، فهي تربح من روائه ولا تخسر، وتتقدم ولا تتأخر.

وهذا ما لمسته في سائر اللقاءات التي تضم إسلاميين وغير إسلاميين، وآخرها ندوة الجزائر عن (قضايا المستقبل الإسلامي).

ومن هنا نقول:

ينبغي على الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة أن يكون شعارها: مرحبا بالحوار مع الآخرين.

ونعني بالآخرين: المخالفين للحركة في أهدافها أو في وسائلها، أو في مواقفها وأطروحاتها، أو حتى في أصل عقيدتها.

فعليها أن تفتح صدرها للحوار مع كل المخالفين، ولمزيد من الحوار مع الذين بدأت معهم حوارا من قبل.

وينبغي للحركة أن تحشد معها كل القوى الإسلامية التي تتفق معها في الأصول الكلية، والقضايا الأساسية، من منظمات وأفراد، لهم وزن فكري وعلمي.

والقرآن يأمرنا بالحوار مع المخالفين، لا أن ندعهم وننفض أيدينا منهم، ونعيش في حدود أنفسنا، يقول تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل: 125).

كل ما اشترط القرآن هنا: أن يكون الجدال ـ الحوار ـ بالتي هي أحسن، أي بأحسن الأساليب وأفضلها وصولا إلى إقناع العقل، وإيقاظ القلب. ومن روائع التعبير القرآني هنا: أنه اكتفى في الموعظة بأن تكون حسنة، ولم يرض في الجدال ـ الحوار ـ إلا أن يكون بالتي هي أحسن: لأن الموعظة تكون مع الموافق والجدال مع المخالف، فلا بد أن يستخدم معه أفضل الوسائل.