محمد عبد الرحمن صادق
الأخ الأكبر في وجود والديه هو موضع سِرهما، وخلاصة فِكرهما، وعُصَارة حُبهما، يحبونه كما لو كانا لم يُنجبا غيره، وتسعدهما منه العطية حتى ولو كانت حِفنة من تراب، لا يتحملان عليه أذى، ويقتلهما منه هجر أو جفاء.
وصيتي لابني الأكبر
اعلم يا بني أنني أعتبرك أهم انتصاراتي وأكبر انجازاتي في الحياة، وأن ما أودعه الله تعالى من حب لك في قلبي لا تعبر عنه الكلمات ولا تصفه المشاعر.
ابني الحبيب.. اعلم أنك امتداد عُمري بعد موتي فلا تنساني من صالح دعائك فأنا إنما ربيتك وأدبتك - ولله وحده الفضل والمنة - لكي تغدق عليَّ من صالح دعواتك، ولتكون خلفاً لي في إخوتك، وأنتم جميعاً في حفظ من لا تضيع عنده الودائع سبحانه وتعالى.
اعلم يا ولدي أن إخوتك هم حِصنك الذي إن خسرته خسرت كل شيء، واعلم أن كل شخص في الوجود يُعَوَّض إلا الأخ، ولا سِيَّما إن كان لربه تقيَّاً.
تذكر يا ولدي قول نبي الله موسى عليه السلام حين قال: "وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي {29} هَارُونَ أَخِي {30} اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي {31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي {32} كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً {33} وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً {34} إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً {35}" (طه: 35:29).
إن أخطأ أحدهم اغفر زلته، وأعنه على شيطانه، ولا تعن شيطانه عليه، وإن قصَّر أحدهم فاجبر تقصيره، وإن هجَرَك أحدهم فابدأ بوصاله.
وتذكر قول نبي الله موسى عليه السلام حين قال: ".. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {151}" (الأعراف: 151).
واعلم يا ولدي أنك لن تعرف قيمة إخوتك إلا إذا عاندتك الدنيا واحتجت إلى ركن تأوي إليه بعد ركن الله تعالى، ولن تعرف قيمة إخوتك إلا إذا زاد همك واعتل بدنك واحتجت إلى كتف تتكئ عليه وأنت توقن أنه لن يميل بك ولن يتخلى عنك.
واعلم يا ولدي أن الأخ الصادق الأمين أفضل من نفسك التي بين ضلوعك، فالنفس قد تأمرك بالسوء أما الأخ الصادق الأمين فلن يأمرك إلا بخير.
وصيتي لك يا ولدي
هي أن تجعل من برَّك لي بعد مماتي احتوائك لإخوتك... تفقَّد أمورهم، وأقِل عثراتهم، واغفر زلاتهم، وارحم ضعيفهم، ووقرهم أمام الناس، يلينوا لك ويطيعوا أمرك ويقوى بهم ظهرك.
وأخيراً يا ولدي
أوصيك ألا تخذلني في إخوتك ولا تسوأني فيهم ولا تقدم عليهم أحداً، حتى لو كان هذا الأحد هو ابنك الذي من صُلبك، فالابن قد يُعوَّض إنما أنَّى لك بأخ إن فقدت أخاك!!
قال الإمام علي رضي الله عنه:
إنَّ أخاكَ الحقَّ مَن كَـانَ مَعَـكَ *** وَمَنْ يَضُرُّ نفسَهُ لِيَنفعَكْ
وَمَنْ إذا ريبُ الزَّمانِ صَدَعـك *** شَتَّتَ فيكَ شَملَهُ لِيَجمعَكْ
كما قال أيضاً:
(الرَّجل بلا أخٍ كشمالٍ بلا يمينٍ).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "مُعاتبة الأخ خير من فقده، ومن بأخيك كله، أطع أخاك وهب له، ولا تطع فيه كاشحاً - حاسداً - فتكون مثله، غداً يأتيه الموت فيكفيك فقده، فكيف تبكيه في الممات وفي الحياة تركت وصله؟".
وقال أبو جعفر المنصور رحمه الله: "من أعطى إخوانه النصفة، وعاشرهم بجميل العشرة قوي بهم عضده، وزاد بهم جلده، وبذلوا دونه المُهَج، وخاضوا في رضاه اللجج".
وقال مسكين الدارمي
أخاك أخاك إن من لا أخاً له *** كــساعٍ الى الهيجاء بغير سلاح
وقال محمد بن عمران الضبي
ومَـا المــرءُ إلّا بإخـــوانِــه *** كما يَقْبِضُ الكَفُّ بالمعْصَــمِ
وَلا خَيْر في الكَفِّ مقطوعـةً *** ولا خَيرَ في السَّاعدِ الأجذمِ
وصية خاصة بإخوتك البنات
أذكرك يا ولدي بحديث النبي ﷺ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "مَن عالَ ابنتينِ أو ثلاثًا، أو أختينِ أو ثلاثًا حتَّى يَبِنَّ، أو يَموتَ عنهنَّ؛ كنتُ أنا وهوَ في الجنَّةِ كَهاتينِ. وأشار بأُصْبُعيهِ السبَّابةَ والتي تلِيهَا" (صحيح الترغيب).
* حتَّى يَبِنَّ: أي، حتى يتزوجن.
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: "ليسَ أحدٌ من أمتِي يعولُ ثلاثَ بناتٍ، أو ثلاثَ أخواتٍ، فيحسنُ إليهنَّ إلا كنَّ له سترًا منَ النارِ" (أخرجه الطبراني).
اعلم يا ولدي أن أختك هي الأم الثانية، وهي الصديقة الوفية، والرفيقة المخلصة، والناصح الأمين.
أختك .. حبها كامل الدَّسم تعطي دون انتظار مُقابل ودون منِّ ولا أذى.
أختك .. إن جالستها تشعر أنك خرجت إلى عالم رُواقي فاضل لا تود أن تخرج منه ولا أن تفارقه.
أختك .. إن فارقتك تشعر وكأن بنيانك على شفا جُرف هار قد ينهار في أي لحظة، وإن عادت إليك تدب في أوصالك الحياة وتزهر كأنك قد وُلدت من جديد.
أختك .. تستمع إليك دون ملل وتشاركك أحوالك دون كلل، إن غبت عنها ينخلع قلبها من بين ضلوعها لهفة عليك حتى تعود، وإن أصابك مكروه ينفطر عليك قلبها ويسيل من أجلك دمعها.
إن نبي الله موسى عليه السلام ما نَعِم بلبنِ أُمه ودفء حِجرها وحنانها إلا على يد أخته التي لم يهدأ لها بال حتى أعادته إلى أمه.
وإن الله تعالى قد حفظ صنيع أخت نبي الله موسى عليه السلام وأثنى على فعلها، بل وجعل سعيها قرآنا يُتلى ويُتعبد بتلاوته.
قال الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام: "إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمكَ كَيْ تَقَر عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ" (سورة طه: من الآية 40).
يقول الرافعي رحمه الله في كتابه "السحاب الأحمر": والبنت قطعة من أمها، ولكنها في الحزن على أبيها أو أخيها بعدة أمهات؛ فهل تراها لا تستوفي في بطن أمها إلا نصف حياتها كهيئتها في الدنيا .. ويبقى النصف الآخر في أخيها فإن مرض خامرها نصف الداء، وإن مات وقع عليها نصف الموت، ولا يكون حزنها عليه إلا هدَّة في حياتها لا يمكن أن تبنى.
مكانة الأخ الأكبر بعد موت الوالدين
بعد موت الوالدين أو أحدهما يستنشق الأبناء رائحة عقل الأب وحكمته في أخيهم الأكبر، ولا أبالغ حين أقول أنهم يستشعرون في أخيهم الأكبر دفء حنان الأم وحبِّها.
الأخ الأكبر .. يعتبره إخوته أنه ظل الأب الذي لا يزول، وحنان الأم الذي لا ينتهي.
الأخ الأكبر .. هو "صَاري السفينة" الذي تتجه الأنظار نحوه ليقين الجميع أنهم له تابع وأن في اتباعه السلامة والنجاة.
الأخ الأكبر هو "شاهد المِسْبَحَة" الذي به ينعقد التسبيح، وعنده مُبتغى كل خير.
الأخ الأكبر هو الأب لإخوته، والجد لأبنائهم، وموضع سِر الجميع، والعقل المفكر للجميع.
الأخ الأكبر حقه على إخوته كحق الأب في حياته، وعقوقه قد يكون عقوقاً للأب بعد مماته.
إن حب الأخ الأكبر وحسن معاملته وتجنب ما يُؤلمه يُعلِّم صِغار الأسرة دروساً في البر لا توجد في بطون الكتب ولا على درجات المنابر.
إن قدَر الأخ الأكبر هو أنه يُكمل رسالة الأب فيتحمل هذا ويصفح عن ذاك، وإن غضب فإنه لا يقسو ولا يهجر ولا يقاطع لأنه يدرك حقيقة واحدة وهي أنه "شاهد المِسْبَحَة" الذي لو تخلى عن دوره انفرطت حبَّات المِسْبَحَة بلا عودة، ودار الجميع في حلقة مُفرغة فأصبحوا كمن يعصر الماء أو كمن يصارع طواحين الهواء.
إن نجاح الأخ الأكبر في القيام بدوره المُنتظر منه يزيد البركة، ويُقوِّي العًصبة، ويرغم أنوف الحاقدين.
بارك الله في الأخ الأكبر ونفع به وعظَّم أجره وألان له قلوب من حوله.
المصدر: بصائر