محمد عبد الرحمن صادق

إن العصر الذي نعيش فيه قد جُمعت فيه كل مظاهر السعادة، وتوفرت فيه كل وسائل الراحة.

إن الإنسان في عصرنا ما عليه إلا أن يضغط على زر ليشاهد العالم بين يديه بما فيه من علم وتكنولوجيا في شتى مناحي الحياة، ويضغط على زر آخر لينتقل من أقصى الأرض إلى أقصاها، ويضغط على ثالث لتقضى له من المصالح ما كانت تكلف الأجيال السابقة من المال والجهد والوقت ما يستنفذ طاقاتهم وأعمارهم.

وبالرغم من كل ما سبق نجد أن هذا العصر به من المُشكلات والمُنغصات ما يُشتت الذهن، ويُحطم النفس، ويُرهق البدن، ويُطفئ البهجة، ويُدمِي الأفئدة والمُقل، للحد الذي يجعلنا نترحم على عصر مضى كان الإنسان فيه هادئ النفس، مُنشرح الصَّدر، صحيح البدن، راض بما قسمه الله تعالى له، دون تكالب محموم ولا سعي في الشر مذموم.

إن الإنسان بما كسبت يداه هو الذي يجلب لنفسه كل هذا الشتات، وكل هذه الهموم والمُنغصات، وبيد الإنسان أن يتخلص من كل ذلك لو عرف من الدنيا حقيقتها، ومن نفسه غايتها، ومن البشر طباعهم.

أولاً: معرفة حقيقة الدنيا

إننا لن نجد وصفاً للدنيا وحقيقتها أفضل مما وصفها به الله تعالى في كتابه، ومما وصفها به النبي ﷺ في الأحاديث النبوية الشريفة.

قال تعالى واصفاً حقيقة الدنيا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].

وأرشدنا الله تعالى إلى سبيل النجاة من الدنيا وشرورها فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28].

وحذرنا الله تعالى من مغبة الركون للدنيا فقال: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ {15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 15-16].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن ﷺ النبي قال: "ألا إنَّ الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرُ اللهِ وما والاهُ، وعالمٌ، أو متعلمٌ" (سنن الترمذي).

وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن ﷺ النبي قال: "لو كانتِ الدنيا تعدلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماءٍ" (سنن الترمذي).

وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: "دخَل عمرُ بنُ الخطَّابِ على النَّبيِّ ﷺ وهو على حصيرٍ قد أثَّر في جنبِه فقال: يا رسولَ اللهِ لو اتَّخَذْتَ فراشًا أوثَرَ مِن هذا؟ فقال: (يا عُمرُ ما لي وللدُّنيا وما للدُّنيا ولي والَّذي نفسي بيدِه ما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا إلَّا كراكبٍ سار في يومٍ صائفٍ فاستظَلَّ تحتَ شجرةٍ ساعةً مِن نهارٍ ثمَّ راح وترَكها)" (صحيح ابن حبان).

* فراشًا أوثَرَ مِن هذا: الفراش الوثير هو اللين المُريح.

ثانياً: معرفة حقيقة النفس وغايتها من الدنيا

إن المسلم الذي يحرص على مكانته عند ربه ما تراه إلا تقياً ورعاً، يرضى من الدنيا بما يبلغه المسير، ومهما حاز من الدنيا جعلها في يده ولم يجعل لها في قلبه حظاً ولا نصيباً.

إن المسلم الذي يعرف حقيقة النفس ويعرف غايتها من الدنيا يستوي عنده تبرها وترابها.

1- حقيقة النفس

إن كلمة النفس لها تعريفات مختلفة، وكل تعريف يكون حسب نظرة صاحب التعريف للكلمة، فمنهم من قال إن النفس هي الروح، ومنهم من قال إنها حقيقة الشيء وجملته، ...إلى غير ذلك من التعريفات.

جاء في كتاب "التعريفات" للجرجاني أنه قال: "النَّفْس هي الجوهر البخاريُّ اللطيف، الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية، وسماها الحكيم: الروح الحيوانية، فهو جوهرٌ مشرق للبدن، فعند الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وباطنه، وأما في وقت النوم، فينقطع عن ظاهر البدن دون باطنه" أهـ.

أما في القرآن الكريم فقد وردت كلمة النفس ومشتقاتها في عشرات المواضع، ووردت بمعاني عديدة تشير في جملتها إلى أن الإنسان قد خلقه الله تعالى وسوَّاه ليكون خليفته في أرضه، وكلفه بتكليفات يؤديها ونهاه عن منهيات يجتنبها، والهدف من كل ذلك هو إعمار الأرض والاستعداد الأمثل لما بعد الموت، رغبة في الثواب ورهبة من العقاب.

مما سبق يمكننا القول أن النفس هي هذا المخلوق الذي جعله الله تعالى منوطاً بالتكليف داخل الإنسان البالغ العاقل.

ومنوطاً بترجمة هذا التكليف إلى أقوال وأفعال وسلوكيات في المجتمع الذي يعيش فيه.

ومنوطاً بالمثول بين يدي الله تعالى يوم العرض عليه للحساب.

وعلى النفس يقع الجزاء بما قدمت في الدنيا.

قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17].

2- غاية النفس من الدنيا

إن غاية النفس السَّوية من الدنيا هي طاعة الله تعالى، وبلوغ رضاه ومثوبته، ولا يشغل النفس من الدنيا سوى ما يبلغها غايتها.

قال الشيخ الألباني رحمه الله: "يغنيك عن الدنيا مصحف شريف، وبيت لطيف، ومتاع خفيف، وكوب ماء ورغيف، وثوب نظيف، العزلة مملكة الأفكار، والدواء في صيدلية الأذكار، وإذا أصبحت طائعاً لربك، وغناك في قلبك، وأنت آمن في سِربك، راضٍ بكسبك، فقد حصلت على السعادة، ونلت الزيادة، وبلغت السيادة، واعلم أن الدنيا خداعة، لا تساوي هم ساعة، فاجعلها لربك سعياً وطاعة.

أتحزن لأجل دنيا فانية ؟! أنسيت الجنان ذات القطوف الدانية ؟! أتضيق والله ربك ! أتبكي والله حسبك! الحزن يرحل بسجدة والبهجة تأتي بدعوة… العافية إذا دامت جُهلت، وإذا فُقدت عُرفت، فاشكروا الله دائماً فالجلوس بعد السَّلام من الصلاة المكتوبة من أعظم الأوقات التي تنزل فيها رحمة الله عز وجل لا تستعجل بالقيام. استغفر، وسبح واقرأ آية الكرسي لا تنس بأنكَ في ضيافة الرحمن عز وجل. ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ {7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ {8}‏) أهـ.

ثالثاً: معرفة البشر وطباعهم

إن التكوين الجسماني للخلق واحد والوظائف البيولوجية للخلق واحدة، مهما تغيرت شعوبهم وقبائلهم ومهما تغيرت ألوانهم ومعتقداتهم، وهذا هو العدل الرباني المُطلق، غير أن طباع الخلق تتغير وفطرتهم تختلف حسب ميول الإنسان وطموحه وما تسوله له نفسه، وحسب ما يعتريه من خصال يكتسبها من المحيطين به، فإن كانت خيراً فخيراً، وإن كانت شراً فشراً.

عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: "ذَكر النَّبيُّ ﷺ فيما يروي عن ربِّه تبارك وتعالى أنه قال: إني خلقتُ عبادي حُنفاءَ وأنهم أتتْهم الشياطينُ فاجتالتْهم عن دينِهم، وحرَّمتْ عليهم ما أحللْتُ لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أُنزِلْ به سلطانًا" (أخرجه الألباني في غاية المرام بإسناد صحيح).

* حُنفاءَ: أي بعيدين عن الباطل متمسكين بالدين الحق. اخْتَارَ الدِّينَ الحَنِيفَ: الإسْلاَمَ، أَي اخْتَارَ كُلَّ مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ وَصَحِيحٌ لاَ عِوَجَ فِيهِ.

* فاجتالتْهم عن دينِهم: اجتالَ الشيطانُ فلاناً: استخفَّه فجالَ معه في الضلالة.

من الحديث ندرك أن طبائع البشر قد وزَّعها الله تعالى عليهم كما وزَّع عليهم أرزاقهم بتقدير منه سبحانه ولحكمة يريدها، وأن طغيان طِباع على أخرى داخل الإنسان إنما يكون نتيجة لاختلال الموازين الكامنة في وجدان هذا الإنسان .

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "يا مَعشَرَ الأنصارِ، ألم آتِكم ضُلَّالًا فهَداكمُ اللهُ بي، ألم آتِكم مُتفرِّقينَ فجمَّعَكمُ اللهُ بي، ألم آتِكم أعداءً فألَّفَ اللهُ بين قلوبِكم بي؟ قالوا: بَلى يا رسولَ اللهِ، قال: أفلا تقولونَ: جِئْتَنا خائفًا فآمَنَّاكَ، وطَريدًا فآوَيْناكَ، ومَخذولًا فنصَرْناكَ؟ فقالوا: بل للهِ المَنُّ به علينا، ولرسولِه" (تخريج المسند بإسناد صحيح على شرط الشيخين).

نرى في الحديث قوله ﷺ (ضُلَّالًا- مُتفرِّقينَ- أعداءً) فـ الطباع كانت مختلفة ومتنافرة ولكن عندما لمس الإيمان شغاف القلوب، وأنارت العقيدة ظلام العقول، اهتدت النفوس وتوحدت الطباع وتحابت القلوب.

إن طبع الإنسان لا يضبطه إلا عقل راجح، وحكمة بالغة، وعقيدة راسخة تحرس ضميره وتضبطه وتوجهه، والمجتمعات في هذا الشأن مثلها مثل الأفراد.

إذا كانت هذه هي حقيقة طباع البشر فعلى العاقل الفطِن والذكي الأريب أن يُعْمِل عقله ويُحْسِن اختيار من يخالطهم لأنه كما جاء في الحديث الشريف: "المرءُ على دينِ خليلِهِ فلينظرْ أحدُكُم مَن يخالطُ" (أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد).

وأخيراً أقول:

إن من عرف من الدنيا حقيقتها، ومن نفسه غايتها، ومن البشر طباعهم، حق له أن يعيش هادئ النفس، مُطمئن القلب، نقي السريرة، مُستقر الحال، مُقبل على ربه، مُدبر عن كل ما يَحرمه مما هداه ربه إليه، فاستحق من ربه الهداية والتوفيق والسداد والرشاد في الدنيا والآخرة.

المصدر: بصائر.