ننقل بتصرف كلام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية  فيقول:

الحوار مع العقلاء من العلمانيين

ومن هذا الحوار المطلوب: الحوار مع العلمانيين، أعني العقلاء المنصفين منهم، المستعدين لأن يسمعوا من الإسلاميين وأن يفهموا عنهم ماذا يريدون وإلام يدعون؟

إن هؤلاء العلمانيين مسلمون في الأصل، ولازال كثير منهم يعتز بأنه مسلم، وبعضهم حريص على إقامة الشعائر، فهو يصلي ويصوم، وربما يحج ويعتمر.

ولكن مشكلته أنه لم يعرف الإسلام معرفة صحيحة ـ كما هي مشكلة كثير من المثقفين الذين تحدثنا عنهم من قبل ـ فهو لم يتح له أن يستقي تعاليم الإسلام من ينابيعها الصافية، ولا أن يلتقي بالعلماء والمفكرين الثقات. بل أخذ الإسلام عن المستشرقين أو المبشرين أو تلاميذهم، أو كون فكرة عن الإسلام من خلال حال المسلمين وما أسوأها، أو مما قرأه أو سمعه لبعض الغلاة أو المنحرفين من المنتسبين إلى الإسلام.

المهم أن ظروف نشأته وتعليمه ومسيرة حياته لم تهيئ له أن يعرف الإسلام نقيا خالصا من الشوائب التي لحقت به قديما وحديثا، من سوء الفهم، وسوء التطبيق، وسوء الاستغلال.

كما أن بريق الحضارة الغربية وقد كانت في أوج مجدها وتألقها، إلى جوار الظلام الذي كان مخيما على العالم الإسلامي، الذي هوى إلى الحضيض في شتى مجالات الحياة.. كل ذلك أعطاه بعض العذر في أن يسيء الظن بالإسلام وشريعته ومنهاجه للحياة، وأن يرى الخلاص والنهوض في اتباع ما صنعه الغرب عندما أراد أن ينهض، حيث تحرر من الدين ومؤسساته ورجاله، وانطلق بالعلم والفكر يبني ويبتكر وينتج ويبدع، حتى سخر قوى الطبيعة لخدمة الإنسان ورفاهية الإنسان.

لقد بدأنا الحوار مع العلمانيين منذ سنوات (صيف سنة 1985م) في الندوة التاريخية التي عقدت في دار الحكمة بالقاهرة، ومثل الإسلاميين فيها فضيلة الشيخ محمد الغزالي، والفقير إليه تعالى، ومثل العلمانيين الدكتور فؤاد زكريا، الذي استجاب دون الآخرين للدعوة التي وجهتها نقابة الأطباء.

ولقد كانت هذه الندوة موضع اعتناء واحتفاء من الصحافة والكتاب والمهتمين لما تدل عليه من أهمية التحاور بين الأطراف المختلفة من أبناء الوطن الواحد.

وقد ذكر الكثيرون من الكتاب ـ منهم الأستاذ فهمي هويدي ـ جوانب وثمارا إيجابية لهذا اللقاء، أقربها أن يستمع كل فريق إلى الآخر استماعا مباشرا.

ولكن عيب هذا اللقاء في نظري: أنه ظهر في صورة مناظرة بين دعاة الإسلام ودعاة العلمانية. لا في صورة حوار.

والمناظرة تعطي الجو حرارة واشتعالا، وخصوصا مع الحضور المكثف للجماهير.

كما أن الذي مثل العلمانيين في هذا الحوار، رجل مكابر، وليس لديه أدنى قدر من المرونة والتسامح والتواضع، تجعله يصغي ويفهم ما لدى الطرف الذي يحاوره، ويتعلم منه شيئا عن حقائق الإسلام الذي يدعو إليه، والذي يجهله هو كل الجهل للأسف الشديد.

وقد شعر بضعف موقفه، وسقوط حجته في الندوة، فراح إلى الصحف التي يكتب فيها، يكيل التهم للجمهور عامة، وللإسلاميين خاصة، ولي على الأخص.

وهذا ما اضطرني إلى أن أرد عليه وأبين الموقف من جذوره في كتاب (الإسلام والعلمانية وجها لوجه).

وأؤكد هنا أن الذي أدعو إليه هو (الحوار) وليس (المناظرة). إن كلمة المناظرة توحي بالتحدي، وإرادة الغلبة، ومحاولة كل طرف أن يصيب الآخر في مقتل.

وأحسب أن هذا لا يفيد كثيرا، وقلما يرجع أحد الطرفين عن موقفه، أو يتزحزح عن موقفه، نتيجة المناظرة، وربما تزيده إصرارا وتعصبا لما هو عليه.

قد تقبل المناظرة إذا أحرج الطرف الإسلامي، وتحداه الآخرون، ولم يعد أمامه مخرج إلا أن يستجيب للتحدي، حتى لا يتهم بالفرار من المواجهة، والهرب من المعركة.

لكن الأصل هو الحوار بالحسنى، الذي سماه القرآن الجدال بالتي هي أحسن، وقد ذكرت شيئا من أدب هذا الحوار في كتابنا (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) فليرجع إليه.

الحوار مع عقلاء الحكام

ومن الحوار المقبول والمطلوب: الحوار مع العقلاء من حكام المسلمين. الذين لا يقفون من الإسلام موقفا عقائديا معاديا، فهؤلاء العقائديون المعادون لا خير فيهم، ولا رجاء منهم. وهم لا يرضيهم إلا انحسار الإسلام أو زواله بالكلية: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (التوبة: 32).

ولكن هناك نوعا من الحكام لا يكره الإسلام، بل يخافه، وكثيرا ما يكون هذا الخوف ناشئا من الجهل بحقائق الإسلام، وأحكام شريعته، وخصائص دعوته، وكثير منهم معذورون إلى حد ما، في هذا الجهل، فلم يتح له أن يعرف الإسلام من مصادره النقية، ولا أن يأخذه من علمائه الثقات. ككثير من المثقفين الذين تحدثنا عنهم في صفحات سابقة. فاضطربت في ذهنه المفاهيم، واختلطت الحقائق بالأباطيل، والأصيل بالدخيل.

ولو هيأ الله لهؤلاء الحكام من يشرح لهم الإسلام الحق متكاملا بلا تجزئة، مصفى بلا ابتداع، ميسرا بلا تعسير، وبين لهم ما وراء الإسلام من خير وصلاح للفرد وللأسرة، وللمجتمع، ومن حمايته من الشرور والرذائل والمفاسد المدمرة لمعنويات الأمة ومادياتها. لو هيأ الله لهم ذلك، وانشرحت لهم صدورهم، لتغيروا، وتغيرت مواقفهم ـ كليا أو

جزئيا ـ من الإسلام ودعوته، فما الحكام إلا بشر مثلنا يمكن أن يتغيروا وأن يتأثروا ويقتنعوا، ويعدلوا من أفكارهم وسلوكهم.

وفي التاريخ أمثلة لحكام تغيروا بتأثير بعض العلماء والدعاة المصلحين.

وكثير من الحكام يكون خوفه من الإسلام ودعوته من وساوس بطانة السوء في الداخل، أو من كيد الأبالسة في الخارج.

وهؤلاء يمكن التسلل إليهم عن طريق ما بقي من خير في أعماقهم، ومخاطبة الدم الإسلامي في عروقهم، من ناحية، وطمأنتهم على كراسيهم وسلطانهم، في المرحلة الراهنة على الأقل، في مقابل ترك الحرية لدعوة الإسلام، حتى تقوم بمهمتها في تربية الشباب على معاني الحق والخير والطهر، وتحميهم من سموم المسكرات والمخدرات وتجار الرقيق، وتقاوم المبادئ الهدامة التي ستكون وبالا على الحاكمين والمحكومين على السواء.

لا مانع من عقد مثل هذه الهدنة أو هذه الاتفاقية مع الحكام، وإن كانت الحركة لا ترضى عن وجهتهم ولا سلوكهم، ولكن في ضوء فقه الموازنات، رأيت أن هذا الوقف أولى من المقاطعة الصارمة أو المعاداة الدائمة.

على أن ما يجب التحذير منه هو أن يؤدي ذلك إلى الممالأة لهؤلاء الحكام، وكيل المدائح لهم. ففرق كبير بين أن تهادنهم وأن تداهنهم!