حينما سئل الإمام سعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس، قال: إذا هلك علماؤهم. وعمر الإنسان ليس بوجوده فوق الأرض، ولكن بطول ذكراه على الأرض بعد وفاته، وهكذا المصلحون، رسموا بأعمالهم صحائف من ضياء تظل تنير للناس درب الصالحين حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

والمصلحون هم الذين يبحثون عن مصلحة البلاد قبل مصالحهم. المصلحون لا يرتضون بما يوجد من منكرات وأخطاء في المجتمع، فيسعون جاهدين لإزالتها . المصلحون يريدون نفع المجتمع بنشر الوعي والفكر السديد وتربية النشء تربية صالحة، ومن هؤلاء الدكتور علي عبد الحليم محمود صاحب البصمات التربوية في أركان الأسرة والمجتمع.

حياته

قضى حياته في خدمة الدعوة الإسلامية والتأليف في مجال التربية، فكانت كتبه تأصيلاً لقواعد التربية الإسلامية وأساليبها، ومنهجاً عملياً في تربية الأجيال المسلمة في مصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية، وكان أحد مؤسسي النظرية التربوية.

ولد علي عبد الحليم بطهطا محافظة سوهاج عام 1928م، ونشأ في أسرة أغلبها مشايخ في الأزهر، وله عشرة من الإخوة؛ خمسة رجال وخمس بنات. ثم انتقل للقاهرة للإقامة فيها برفقة والده الذي كان مدرّساً في الأزهر.

تعليمه

حينما شب التحق بالمدرسة حتى وصل الصف الثالث الإبتدائي، لكن والده كان يرغب في إلحاقه بالأزهر الشريف، وبالفعل استطاع أن يحفظ القرآن كاملا في عام واحد ثم انتقل للأزهر عام 1942م، بمراحله: ابتدائي، وثانوي، حتى تخرج في كلية اللغة العربية.

حصل على الدبلوم في التربية وعلم النفس من كلية التربية سنة 1956م، والدبلوم في التخطيط والمتابعة في مجال التعليم نظام الدراسة المطولة نسبياً عام 1961م، ثم درس في المعهد العالي للجامعة العربية حتى سنة 1962م.

عمله

اختير للعمل في "مؤتمر التعليم الإسلامي الأول" الذي عقد في "مكة" تحت إشراف جامعة الملك عبد العزيز، وكان ينظم فيه بعض الأعمال الإدارية.

سافر للعمل في الكويت في عام 1970م وعمل أستاذاً في كلية المعلمين، وبقي في الكويت سنة واحدة.

التحاقه بجماعة الإخوان

يقول الدكتور علي عبد الحليم عن قصة التحاقه بالإخوان:

"كان الأستاذ الإمام البنا يفتتح شعبة من شعب الإخوان في منطقة شبرا وروض الفرج، وكنا نسكن في هذه المنطقة، ودُعِيَ والدي لحضور الاحتفال الذي أقامه الإخوان بهذه المناسبة، بوصفه أحد علماء الأزهر وخطيب مسجد الحي، بالإضافة إلى أنه معروف لدى الأستاذ الإمام (رحمه الله)، وكان ذلك سنة 1939م، ودار بين والدي والأستاذ حسن البنا الحوار التالي:

حسن البنا: لماذا يا شيخ عبد الحليم تقتصر على خطبة الجمعة في مسجد واحد، وفي الإمكان أن تخطب في مساجد الإخوان الكثيرة؛ فتعم الفائدة بعلمك؟

الوالد: إن صحتي وظروفي لا تسمحان لي بهذا المجهود الذي يبذله دعاة الإخوان.

حسن البنا: لكن هذا غير كافٍ في نظرنا، والدعوة تحتاج إلى الحركة والتنقل وتعدد المساجد.

الوالد: يا شيخ حسن، قلت لك: لا أستطيع، ولكن خذ (علياً) وشغِّله في الإخوان كما تشاء. (كنت في ذلك الوقت في الحادية عشرة من عمري، ولم أكن قد دخلت الأزهر بعد).

بعد ذلك، دنا مني الأستاذ المرشد، ورَبَتَ على كتفي، وقال لي: (أهلًا بالأخ عليّ)، ثم نادى على نائب الشعبة، وقال له: يا أستاذ عمر، انضم إلينا اليوم عضو جديد في الجماعة هو الأخ عليّ عبد الحليم محمود، فخرج الأستاذ عمر من الشعبة لدقائق وعاد بكيس ممتلئ بالحلويات وأعطاه لي!".

"ومنذ ذلك الحين وجدت نفسي عضواً في الجماعة، بدأتها شبلاً في فرقة الجوالة، ثم كشافاً، ثم جوالاً، إلى أن وصلت في هذا المجال إلى وظيفة مساعد زعيم رهط.

بين دعاة الإخوان

التحق الأخ الدكتور علي عبد الحليم بـمدرسة الدعاة، التي أنشأها الإخوان (1945م)، وكان يُدرِّس فيها الإمام البنا بنفسه، ومنذ ذلك التوقيت، اعتُبر من الدعاة المحسوبين على الجماعة، وتم تكليفه بإلقاء درس للأخوات كل يوم ثلاثاء في مقر الشعبة.

يقول: تبدلت الظروف بي؛ إذ التحقت بالأزهر عام 1942م، وسني 13 سنة، ومنذ أن دخلت الأزهر، وارتديت الزي الأزهري المعروف، والإخوان ينادونني: الشيخ عليّ أو الأخ الشيخ عليّ، ويطلبون مني إمامتهم في الصلاة، وما هي إلا سنتان فقط، إلا وكلفت بخطبة الجمعة في أحد مساجد الإخوان، وكان إلقائي لخطبة الجمعة التي كانت ارتجالاً دائماً هو الذي مكنني من البحث والدراسة؛ إذ كنت أعتبرها محاضرة علمية من المحاضرات التي عودنا عليها الإخوان".

الشيخ وسط النظام الخاص

وقع عليه الاختيار سنة 1950م ليكون عضواً بالنظام الخاص في الجماعة، ويقول الدكتور علي عن حرب فلسطين واختياره في النظام بعدها:

"مما أذكره أن الجماعة عندما وجّهت كتيبة من أبنائها للدفاع عن فلسطين أمام اليهود الصهاينة، تبادر الإخوان إلى الانضمام لهذه الكتيبة؛ ليسافروا إلى فلسطين، وبلغ ببعضهم حد البكاء لكي يسافر..

وكنت ممن رغب في الذهاب إلى فلسطين، ولكن الإمام البنا شرط عليَّ إذن الوالد، فلما ذهبت إلى والدي رفض تماماً، وذهبت إلى الأستاذ وقلت له: إن الوالد رفض، لكني أستطيع محايلته والحصول على موافقته، فكلم الأستاذ والدي على الهاتف، فلما أخبره الوالد بالرفض قال لي: انتظر معركة أخرى قادمة ستشارك فيها إن شاء الله، والمعارك كثيرة".

محنته

تعرّض الدكتور علي - كإخوانه - للظلم والقمع والمطاردة في عهد الاستبداد والحكم العسكري في الستينيات، وصودرت كتبه ومنعت مؤلفاته من الطبع، وحوكم على بعض ما جاء فيها، واعتقل مرَّات عديدة ومنع من الخطابة والحديث أمام الجماهير.

من أقواله

قال (رحمه الله) عن الغزو الفكري للأمة الإسلامية:

"إن رسالة المسجد في العصر الحاضر أصبحت شاقة، وذلك أنه حينما تقلص الاستعمار المادي بدأت دول الغرب والشرق تغزونا باستعمار فكري هدفه أن يتحلل المسلمون من الإسلام: أن يتحللوا من العقيدة، وذلك بالتشكيك في العقائد عن طريق الأفلام المأجورة، وذلك له نظامه المخطط: السخرية بعلماء الدين، ثم السخرية بالدين في فروعه، ثم السخرية بالدين في مبادئه.

وأن يتحللوا أخلاقياً، وذلك بنشر كل ما يعين على الفساد وكل ما يهدم الفضيلة. وأن يتحللوا تشريعياً، وذلك بوضع القوانين الوضعية موضع التعميم والتطبيق.. وفي مواجهة كل ذلك؛ لابدَّ أن يقوم المسجد بإعلان كلمة الإسلام في الصغير والكبير من هذه المجالات، وليس هذا دور المسجد فحسب؛ وذلك أن أعداء الأمة الإسلامية يحاولون الآن جاهدين أن يبعثوا فيها التفكك والاختلاف والفرقة، وأن يزيلوا من أذهان المسلمين المبادئ الإسلامية التي قامت عليها أمتهم".

وقال مشيراً إلى مصدر البأس والقوة في هذه الأمة:

"لقد قامت الأمة الإسلامية على الأخوة: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ"، "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً"، "المسلم أخو المسلم".

وهذه الأخوة بني عليها أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، وأن الحدود والفواصل فيما بينها إنما هي حدود وفواصل مصطنعة: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ"، "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ".

وما دامت أمة واحدة يربطها رباط الأخوة، فهي إذن أمة متضامنة متساندة متعاونة إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. وإذا وضع ذلك موضع التطبيق فإنها تكون أمة قوية شديدة البأس، لا تقهر، ومن أجل ذلك كانت المحاولات الدائمة لبث الاختلاف والفرقة".

قال عن المؤامرات التي تحاك ضد العالم الإسلامي:

"ولقد أقام الاستعمار، وأقامت الصهيونية فرقاً وأحزاباً عميلة وصبت المال في أيديها صباً، والسمة البارزة لكل هذه الفرق والأحزاب هي إلغاء الجهاد، والقول بأن الجهاد في الإسلام قد انتهى، أو لا جهاد إلا تحت راية خليفة، وما دام الخليفة غير موجود فلا جهاد. إن أصبع الصهيونية من هذه الفرق والأحزاب واضح لا يحتاج إلى دليل".

وحذَّر من الخيانة والولاء لغير الإسلام والأوطان فقال:

"وفي الأقطار الإسلامية جماعات ولاؤها لغير الإسلام، بل ولغير أوطانها، إنها عدوة للإسلام وعدوة لأوطانها، وقد نبه إلى هذه الجماعات كبار المفكرين، ونبه عليها بالذات الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز في خطبه وأحاديثه وتصريحاته".

من مؤلفاته

ترك الدكتور علي عبد الحليم للمكتبة التربوية والإسلامية ستة وخمسين كتاباً تشكل ملامح النظرية التربوية في فكر جماعة الإخوان المسلمين، منها.

  1. منهج التربية عند الإخوان المسلمين.
  2. القصة العربية في العصر الجاهلي.
  3. التربية العقلية.
  4. التربية الإسلامية في سورة الأنفال.
  5. التربية الروحية.
  6. التربية الاجتماعية الإسلامية.
  7. حكايات عن الإخوان.
  8. المسجد وأثره في المجتمع الإسلامي.
  9. جمال الدين الأفغاني.
  10. رسالة الحب في الله.
  11. ثقافة الطفل العربي.
  12. التربية الإسلامية في المجتمع.
  13. التربية السياسية.
  14. التربية في سورة النساء.
  15. فهم أصول الإسلام.
  16. ركن الأخوة.
  17. ركن الثبات.
  18. ركن الطاعة.
  19. ركن التضحية.
  20. ركن الثقة.
  21. ركن الجهاد.
  22. بهجة اللقاء بين الأبناء والآباء.
  23. مشكلات الشباب والفتيات.
  24. التربية في سورة آل عمران.
  25. التربية في سورة النور.
  26. فن تربية الأولاد في الإسلام.
  27. التربية الدينية الغائبة.
  28. تربية النشء المسلم.
  29. التربية الخلقية، وغيرها من كتبه القيّمة.

ويعدُّ كتابه "وسائل التربية عند الإخوان المسلمين.. دراسة تحليلية تاريخية" من أشهر كتبه وأوسعها انتشاراً، وقد كتب في إهدائه:

"إلى الذين يؤثرون الحقَّ فيهتدون به إلى الحقيقة، ويرغبون في العمل فيصلون به إلى تحقيق الأمل.

إلى أبناء الأمَّة الإسلامية المعاصرة، الذين ألقت عليهم الأقدار عبء الجهاد من أجل الإسلام دعوةً وحركةً ومنهجاً ونظاماً حتى تكون كلمةٌ الله هي العليا، ويكون الدينُ كلُّه لله، ويومئذ يفرحون بنصرِ اللهِ، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.إلى هؤلاء أقدّم هذه الرسالة التّحليلية التاريخية، فإنَّ فيها كثيراً ممَّا ينفع المؤمنين".

رحيله

رغم انتشار كتبه التربوية وتلهف الشباب على اقتنائها لما فيها من دروس تربوية عملية ترسم للفرد خيوط حياته، إلا أن ظهور يكاد يكون نادرا، وقد ظل كذلك حتى رحل بعد رحلة استغرت 86 عاما من حياته، فرحل يوم الإثنين 8 جمادى الأوّل 1435هـ الموافق 10 مارس 2014م، بعد حياة حافلة بالعطاء والتضحية في خدمة الدعوة الإسلامية، ودفن في مسقط رأسه طهطا سوهاج بمصر.

لقد كان الدكتور علي صادحاً بكلمة الحق، عاملاً لدين الله، صابراً على الظلم والقمع الذي تعرّض له في مدة حياته حتى وافته المنيّة رحمه الله.