يسعى المستبدون دوماً لأجل السيطرة على شعوبهم، ويلجئون فى سبيل ذلك لأكثر وسائل القمع وحشيةً ودموية، ما دامت تحقق لهم ذلك، فقد ثبت أن الشعوب تستسلم لحكامها حين تمرُّ بصدمة أو تتعرض لترويع، حينذاك يسهل تطويع تلك الجماهير، وتمرير أهداف كانت من قبل ترفضها، أو تقاومها.. فالوقوع تحت تأثير الصدمة ينزع منك القدرة على المبادرة، فتصبح أسيراً لمن روّعك.
وقد مثّلت تلك الطريقة تحدياً بالغ الخطورة لحركات التغيير، إذ بإمكانها أن تجمَّد حركة الجماهير، أو تُطلقُها فى عكس مسار التغيير! مما يُبدد الطاقات ويشتت الجهود ويحبط الآمال.
لذا حرص القرآن الكريم على إرشاد المسلمين لكيفية التعامل مع حالات الترويع التي تسببها الصدمات، حتى لا يقع المسلمون أسرى لها. فحين حدثنا القرآن عما وقع لأصحاب القرية وأصحاب البروج في سورتي ياسين والبروج :
مرَّ سريعاً على مشهد الدماء، فقال: "قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ" في سورة البروج.
لكنه أطال الوقوف أمام الجناة "النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ"
وركز على مشهد البطولة والفداء " وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21)" يس
ثم استحضر مشهد الآخرة لهؤلاء "إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ" البروج
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)" يس
ثم أثبت وركَّز على حقيقة الصراع وأطرافه " وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)" البروج
ثم أثبت (الفوز) لمن تمسك بالحق وإن قُتل في سبيله (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)" البروج
ثم أبان أن ذلك كله، ما هو إلا حلقةٌ من حلقاتِ الصراع " إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20)" البروج
ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبل أُحد، الذي استُشهد فيه سبعون من الصحابة .. وعليه شُجت رأسه، وكُسرت رباعيته، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه، وشُلت يد طلحة الخير، ولم يجد ما يكفن به مصعب.. وصرخ فيه أبو سفيان تشفياً " اعل هب "
قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه " أحد جبل يحبنا ونحبه" رغم ما حدث به من بعض عصيان وتنازع وفشل..
فاعبروا سريعاً مشهدَ الألم فى رابعة، وتأملوه ساعةَ الحسابِ والجزاء..
ولا تركزوا على الجاني حين سطوته، وإنما على مشهد البطولة والفداء..
ولايَغِب عنكم جوهرُ الصراع، فتستغرقُكم الافتراضات وجدل الأخطاء..
واعلموا أنها جولة تتبعها جولات، فخذ من الأولى ما يُعينك فى الثانية. وأخيراً.. إن أعجزكم الباطل وإمكاناته، فتذكروا قدرة الله، وثقوا بعدالته.
فاستباحة الدماء فى رابعة.. حق وباطل، وليس مجرد خلاف سياسي