أولا : مفهوم التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة
هذه الآفة يبتلى بها نفر من العاملين، ولا يكاد يسلم من شرها العمل الإسلامي إنما هي : ( التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة ) وحتى يتطهر من هذه الآفة من ابتلوا بها ويتقى شرها من عافاهم الله عز وجل منها فتصفو الطريق أمام العمل الإسلامي فإنه لابد من تقديم أو عرض تصور واضح لها وذلك على النحو التالي :
أولا : مفهوم التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة :
التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة لغة : لا نستطيع تحديد المراد بالتطلع إلى الصدارة وطلب الريادة لغة إلا بعد تحديد المراد بالصدارة والريادة فماذا يراد بهما ؟
تطلق الصدارة في اللغة ويراد بها التقدم أو الترؤس إذ هي مأخوذة من الصدر الذي هو أعلى مقدم كل شيء وأوله ، تقول : صدر النهار والليل وصدر الشتاء والصيف وما أشبه ذلك تعنى أول وأعلى كل واحد منها وتصدر الفرس وصدر أي تقدم الخيل بصدره .
وكذلك الريادة تطلق لغة ويراد بها: التقدم أو السبق للإعداد والتهيئة إذ هي مأخوذة من الرود وهو الترويد أو فعل الرائد تقول : بعثنا رائدا يرود لنا الكلأ والمنزل ، ويرتاد أي ينظر ويطلب ويختار أفضله .
وإذ انتهينا الآن من تحديد المراد بالصدارة والريادة لغة فإننا نقول : إن التطلع للصدارة وطلب الريادة في اللغة إنما هو الرغبة في التقدم على الغير بل سؤال ذلك صراحة التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة اصطلاحا : أما المراد بالتطلع إلى الصدارة وطلب الريادة في الاصطلاح الشرعي والدعوى فإنما هو تعلق القلب بالإمامة أو الريادة وسؤال ذلك صراحة أو القعود عن القيام بالواجب وأداء الرسالة .
ثانيا : حقيقة التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة في ميزان الإسلام
والتطلع إلى الصدارة وطلب الريادة في ميزان الإسلام شيء مذموم ومنهي عنه، بل عليه الوعيد الشديد إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه ).
ويقول عليه الصلاة والسلام - لعبد الرحمن بن سمرة رضى الله عنه : ( يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها ) .
ويقول أبو ذر رضي الله عنه : قلت يا رسول الله ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ثم قال : ( يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيها ) ويقول المقدام بن معد يكرب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب على منكبه ثم قال له : ( أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميراً ولا كاتباً ولا عريفاً ).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء ) .
وإذا كان هذا هو موقف الإسلام من التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة فما بال نبي من أنبياء الله سألها وزكى نفسه ليعطاها ؟ إنه يوسف عليه السلام إذ حكى القرآن الكريم قوله { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } وما بال المسلم يلح في سؤالها حتى تصبح سمة من سماته وعلامة يعرف بها بين الناس ؟ إذ يقول الحق سبحانه في صفات عباد الرحمن: { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما } ونقول : لا تعارض ولا تناقض : ذلك أن يوسف عليه السلام سأل وزكى نفسه لأنه رأي خلو المكان من قائم بالحق وداع إليه ومدافع عنه، ووجد نفسه أهلا لذلك، ولكنه لم يكن معروفا ؛فكان لابد من السؤال والتزكية من باب { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } وكذلك سؤال المسلم الريادة والإمامة إنما هو سؤال لله، وليس للبشر والمنهي عنه سؤال البشر، وأيضا هناك فرق بين أن يطلب المسلم ذلك من ربه حتى يكون جاهزا ومعدا لسد الفراغ عند الحاجة وبين أن يظل نائما ثم يسأل الريادة ولم يأخذ بسبب واحد من أسباب القدرة عليها والقيام بحقها .
ثالثا : أسباب التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة
وللتطلع إلى الصدارة وطلب الريادة أسباب تؤدي إليه وبواعث توقع فيه نذكر منها :
(1) الرغبة في التحرر من سيطرة وسلطان الآخرين :
فقد يكون السبب في التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة إنما هي الرغبة في التحرر من سيطرة وسلطان الآخرين؛ ذلك أن بعض الناس قد ينشأ دون أن يذوق طعم الطاعة لأحد ولو مرة واحدة، ومثل هذا إذا وضع في محيط جماعي فإنه يعز عليه بل يكبر في نفسه أن يكون فوقه أحد؛ لذلك تراه تتعلق نفسه تعلقا بالصدارة، ويسعى جاهدا لسؤال الريادة حتى يتحرر بتصوره من سيطرة وسلطان الآخرين.
(2) الرغبة في تحصيل عرض من أعراض الحياة الدنيا :
وقد يكون السبب في التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة إنما هي الرغبة في تحصيل عرض من أعراض الحياة الدنيا ذلك أن بعض الناس قد يتعلق بالحياة الدنيا تعلقا يحمله على إصابتها من أي باب تيسر له حلالا كان هذا الباب أو حراما، ومثل هذا الصنف يتصور أنه إذا كان صدرا أو رائدا فإن الكل سيكون في خدمته من أجل إصابة حظه من أعراض هذه الحياة الفانية؛ لذا تراه متعلق النفس بالصدارة؛ ساعيا بجدية واهتمام لسؤال أو طلب الريادة .
(3) الغفلة عن تبعات الصدارة والريادة :
وقد يكون السبب في التطلع وطلب الريادة إنما هي الغفلة عن تبعات هذه الصدارة وتلك الريادة ذلك أن تبعات الصدارة والريادة ضخمة فصاحبها يجوع حيث يشبع الآخرون ويظمأ حيث يرتوي الآخرون، ويسهر حيث ينام الآخرون، ويتعب حيث يستريح الآخرون، وبالجملة فإن تبعات هذا الأمر أن يفدي صاحبه الآخرين بنفسه في ساعات الشدة، ويقدمهم على هذه النفس في ساعات الرخاء، على نحو ما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ يقول للبراء رضى الله عنه : ( كنا والله إذا احمر البأس نتقى به وإن الشجاع منا للذي يحاذى به يعني النبي صلى الله عليه وسلم ).
وإذ يقول علي رضى الله تعالى عنه: ( كنا إذا احمر البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه ).
ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: ( لن تراعوا لن تراعوا ) وهو على فرس لأبى طلحة عرى ما عليه سرج في عنقه سيف ) ويقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : الله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم بفعل ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال : يا أبا هر فقلت: لبيك يا رسول الله قال : الحق ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبنا في قدح فقال : من أين هذا اللبن ؟ قالوا : أهداه لك فلان أو فلانة قال : أبا هر قلت : لبيك يا رسول الله قال : الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا أحد إذا أتته هدية أرسل إليهم ، وأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بد فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت فقال : يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال : خذ فأعطهم قال : فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد على القدح حتى انتهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلى فتبسم فقال : أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله قال :بقيت أنا وأنت ؟ قلت : صدقت يا رسول الله قال : اقعد فاشرب فقعدت فشربت قال : اشرب فشربت فما زال يقول : اشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا قال : فأرني : فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة ).
هذه تبعات وتكاليف الصدارة والريادة، ومن غفل عنها فإنه تتعلق نفسه لا محالة بالصدارة ويجتهد في طلب الريادة.
(4) الغفلة عن عواقب التقصير في الصدارة والريادة :
وقد يكون السبب في التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة إنما هي الغفلة عن عواقب التقصير في هذه الصدارة وتلك الريادة، وذلك أن عواقب التقصير في هذه الصدارة وتلك الريادة في هذا الأمر في الدنيا إنما هي إفساح المجال أمام الباطل وجنده ليفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل، وأما في الآخرة فهي التقييد بالأغلال والسلاسل والحرمان من الجنة والإلقاء في النار إذ يقول -صلى الله عليه وسلم -:
( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة )
( ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل أو يوبقه الجور ).
(من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار ).
ومن غفل عن هذه العواقب فإنما تتوق نفسه إلى الصدارة ويسأل الريادة .
(5) الرغبة في التسلط وإذلال الآخرين :
وأخيرا قد يكون السبب في التطلع إلى الصدارة وطلب ذلك إنما هي الرغبة في التسلط وإذلال الآخرين؛ ذلك أن بعض الناس قد يلقى شدة وضغطا في تربيته، أو تخوينا وتسيبا إلى حد حب التسلط والإذلال، ومثل هذا يرى الصدارة والريادة بابا يلج منه؛ ليتشفى، وليشبع غريزة أفرزتها التربية السيئة .... لذا فإن نفسه تتوق إلى هذه الصدارة ويجتهد في طلب تلك الريادة .
رابعا : آثار التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة
وللتطلع إلى الصدارة وطلب الريادة آثار سيئة وعواقب وخيمة على العاملين وعلى العمل الإسلامي ودونك طرفا من هذه الآثار وتلك العواقب :
- أ- آثار التطلع إلى الصدارة على العاملين :
فمن آثار ذلك على العاملين :
(1) الحرمان من التوقيف والعون الإلهي :
ذلك أن التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة يعنى الوثوق بالنفس والاعتماد عليها وعلى ما لديها من طاقات وإمكانات دون الحاجة إلى عون وتأييد من الله، وقد جرت سنة الله مع خلقه أن يتخلى عمن اعتمدوا على حولهم وقوتهم غير عابئين بحوله سبحانه وقوته ... وما ظنك بمن تخلى عنه ربه أيكتب له التوفيق أو يحظى بأي عون أو تأييد ؟ اللهم لا !!
وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى هذا الأثر في قوله لعبد الرحمن ابن سمرة :( يا عبد الرحمن : لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسالة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسالة أعنت عليها .....)
(2) تعريض النفس للفتنة وبالتالي للغضب الإلهي :
وذلك أن من تطلع إلى الصدارة والريادة فقد جعل نفسه في مهب ريح الفتن إذ ربما ينسى بهذا التطلع وذلك الطلب مراقبة الله والحساب والمساءلة غدا بين يديه سبحانه فيركن إلى الدنيا ويرضى بها أو ينسى تبعات وتكاليف هذا الأمر، بل ربما جار وظلم وهذا كله ينتهي به إلى استحقاق الغضب والسخط الإلهي الذي يتمثل في العقاب والعذاب على نحو ما شرحنا آنفا .
وما أجمل وأروع تصوير النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الأمر حتى يقول :
( إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ).
(3) تضاعف الأوزار والأثقال :
وذلك أن من يصل إلى الصدارة و الريادة بعد التطلع والسؤال قد يفتن ويقتدي ويتأسي به من هم دونه فيعرضون أنفسهم للفتنة مثله وحينئذ تتضاعف عليه الأوزار والأحمال فيحمل وزره ووزر من اقتدى وتأسى في الشر به وتصدق الله :{ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم }.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم -:-
( ...... ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) ...
من عمل إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )
(4) القتل أو النفي أو التشريد في الأرض :
وذلك أن التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة قد يؤدى إلى التشاجر أو التناحر، وربما أسفر ذلك عن القتل أو النفي والتشريد في الأرض والتاريخ البشرى حافل بآلاف النماذج التي تطلعت إلى الصدارة وطلب الريادة ولم تصل إلى مرادها بل انتهت بها الحال إلى القتل أو النفي والتشريد في الأرض:
- ب- آثار التطلع إلى الصدارة على العمل الإسلامي :
ومن آثار ذلك العمل الإسلامي كثرة التكاليف وطول الطريق؛ ذلك أن صفا يحوى في طياته متطلعين إلى الصدارة وطالبين للريادة لا يمكن أن يستقيم أبدا، وأنى لهذا الصف أن يستقيم وفيه من أغرتهم الدنيا بزخرفها وبريقها وزهرتها وزينتها ممثلا ذلك التطلع إلى المنصب والتعلق به ؟.
وإذا انتهي الأمر بصف إلى الاعوجاج فإن نصر الله منه بعيد إلا أن يكون ذلك مكرا واستدراجا وصدق الله :
{ ولينصرن الله من ينصره } .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ..}.
قد فطن إلى ذلك سلف الأمة رضوان الله عليهم أجمعين فكانوا إذا تأخر عليهم النصر يردون هذا التأخير إلى حب الدنيا والتعلق بها ثم يبادرون بالتوبة والرجوع إلى الله فينزل بهم نصره .
والقصة التالية تصوير بديع لما فطن إليه هؤلاء :
لما أبطأ فتح مصر على عمرو بن العاص كتب إلى عمر يستمده فأمده بأربعة آلاف (تمام ثمانية آلاف ) على ألف رجل منهم رجل كتب إليه : إني أمددتك بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل رجل منهم مقام الألف : الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد، واعلم أن معك اثني عشر ألفا ولا تغلب اثنا عشر ألفا من قلة .
ولما وصل هذا المدد وتأخر الفتح على عمر كتب إلى عمرو : أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر تقاتلونهم منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك الأربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف إلا أن يكون غيرهم ما غير غيرهم فإذا أتاك كتابي فاخب الناس وحضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة وليعج الناس إلى الله ويسألوا النصر على عدوهم ......
خامساً: علاج التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة
ويمكن التطهر من هذه الآفة بل وتحصين النفس ضدها باتباع الأساليب التالية :
(1) دوام النظر في السنة النبوية :
فإن فيها تحذيرا شديدا من سؤال الولاية أو تعلق القلب بها بل فيها تصوير بليغ لتبعات وعواقب التقصير في هذا الأمر على نحو ما ذكرنا في الأسباب من قبل .
(2) دوام التذكير بتبعات هذا الأمر وعواقبه الدنيوية والأخروية :
فإن الإنسان بفطرته ينسى ولا علاج لهذا النسيان إلا بالتذكير والتذكير الدائم على منهج القرآن الكريم :{ فذكر إن نفعت الذكرى }. { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين }.
(3) التعويد على الطاعة وهضم النفس منذ نعومة الأظافر :
فإن ذلك له أثره فيما بعد فيخلع هذه الأمراض من القلب والرضا بالحال التي يوضع فيها المسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(.... طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعت رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في ساقة كان في الساقة ......).
(4) الرفق في المعاملة :
فإنه ما كان الرفق في شي إلا زانه، وما نزع الرفق من شي إلا شانه، وعليه فإن هذا الرفق سيعين على تخليص القلب من الصدارة بل وحمد الله على المعافاة منها .
(5) التذكير بسيرة السلف وموقفهم من الصدارة والرياء :
فإن سيرتهم طافحة بكراهية هذا الأمر والنفور والتحذير الشديد منه تقديراً لتبعاته وعواقبه فهذا أبو بكر رضى الله تعالى عنه يخطب في المسلمين بعد قبوله الخلافة قائلا :
( يا أيها الناس : إن كنتم ظننتم أنى أخذت خلافتكم رغبة فيها أو إرادة استئثار عليكم وعلى المسلمين فلا والذي نفسي بيده ما أخذتها رغبة فيها ولا استئثار عليكم ولا على أحد من المسلمين ولا حرصت عليها يوما ولا ليلة قط ولا سألت الله سرا ولا علانية ولقد تقلدت أمرا عظيما لا طاقة لي به إلا أن يعين الله ولوددت أنها إلى أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعدل فيها فهي إليكم رد ولا بيعة لكم عندي فادفعوا لمن أحببتم فإنما أنا رجل منكم ).
ولما كان عمر في النزع الأخير جعل الأمر شورى في ستة من المسلمين فأشار عليه المغيرة بن شعبة بابنه عبد الله بن عمر ، ليكون خليفة ، فغضب عمر ورد عليه قائلاً :" قاتلك الله ، والله ما أردت الله بهذا ، لا إرب لنا في أموركم ، وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي ، إن كان خيراً أصبنا منه ، وإن كان شراً فبحسب آل عمر أن يحاسب منه رجل واحد ، ويسأل عن أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أما لقد جهدت نفسي ، وحرمت أهلي ، وإن نجوت كفافاً لا وزر ، ولا أجر إني لسعيد " ، ولما ولى عمر بن عبد العزيز ، جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء قبله ، فقال له عمر :
مالي ولك ؟ تنح عني ، إنما أنا رجل من المسلمين ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد ، فصعد المنبر، واجتمع الناس إليه فقال : أيها الناس قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ، ولا مشورة من المسلمين ، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي ، فاختاروا لأنفسكم ، ولأمركم من تريدون ، فصاح المسلمون صيحة واحدة : قد اخترناك لأنفسنا ولأمرنا، ورضينا كلنا بك .... " إلى غير ذلك من الأخبار المشحونة بها كتب التاريخ .
6- التذكير بمكانة ومنزلة الدنيا من الآخرة ، على نحو ما جاء في كتاب الله - عز وجل - وعلى لسان النبي صلى الله عليه وسلم:
إذ يقول المولى عز وجل - عن هذه المنزلة ، وتلك المكانة :
{ قل متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ..... } ، { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } ، { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الدار الآخرة هي دار القرار } ، { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة والأنعام و الحرث ، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن الثواب } .
وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بما يرجع " ، " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء " ، فإن هذا التذكير قد يحمل العقلاء على أن يكونوا مغمورين بعيداً عن أي صدارة أو ريادة ، حتى يخرجوا من هذه الدنيا سالمين غانمين فيظفروا غداً برضوان الله سبحانه و الجنة .
ـ من كتاب "آفات على الطريق" لفضيلة الدكتور السيد نوح رحمه الله.