عبد الناصر سلامة

الساعة السابعة من صباح السبت 20 أغسطس 1988، كنت في العراق برفقة المراقبين الدوليين، ممثلي الأمم المتحدة، في منطقة شط العرب بالبصرة، الموقع الأقرب إلى الحدود العراقية الإيرانية، كنت مندوبًا عن صحيفة الأهرام، لتغطية لحظة وقف إطلاق النار في الحرب المستعرة بين البلدين على مدى ثمانية أعوام، وذلك في أعقاب إعلان الزعيم الإيراني آية الله الخوميني الموافقة على وقف القتال بدءًا من ذلك التوقيت، مختتمًا إعلانه بالجملة الشهيرة “وكأني أتجرّع السُّم”.

تلك اللحظة الحاسمة التي كان ينتظرها ويراقبها العالم من أقصاه إلى أقصاه، في عدم وجود قنوات تلفزيونية فضائية عربية آنذاك، كان يقوم بتغطيتها على الجانب العراقي فقط، نحو خمسمئة إعلامي من مراسلي الصحف والإذاعات والتلفزيونات ووكالات الأنباء، ليس من بينهم أيّ ممثل لصحيفة أو تلفزيون عربي، اللهم إلا كاتب هذه السطور، على الرغم من وجود كثير من الزملاء العراقيين والأردنيين والمصريين، وربما غيرهم، لكنهم يعملون لحساب القنوات والصحف ووكالات الأنباء الغربية والأمريكية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن البث الفضائي بدأ عالميًّا من أوربا إلى أمريكا الشمالية منذ عام 1962 من خلال القمر الصناعي تلستار، أي أن العرب تأخروا في هذا المجال نحو 30 عامًا.

    الإعلام أجنبي والأحداث عربية

حتى ذلك التاريخ، كانت وسائل الإعلام العربية بمختلف أنواعها تعتمد اعتمادًا كليًّا على النقل من وكالات الأنباء العالمية، وبشكل خاص رويترز، والفرنسية، وأسوشيتد برس، ويونايتد برس، والألمانية، وحتى وكالات الأنباء العربية كانت تعتمد في معظم تغطيتها الخارجية على النقل من الوكالات السالفة الذكر، ذلك أنها كانت تقتصر في عملها على الاهتمام بالشأن المحلي من خلال البيانات الرسمية ووزارات الإعلام، وهيئات الاستعلامات، وما شابه ذلك.

ربما نذكر جميعا في هذا الصدد، أن الحدث العربي الأبرز والأهم فيما بعد، والمتعلق بالغزو العراقي للكويت، وما استتبعه من حرب التحرير التي قادتها الولايات المتحدة بمشاركة قوات من عشرات الدول من بينها جيوش عربية، كانت تغطيته الإخبارية لأنحاء العالم من خلال وكالات الأنباء الأجنبية، وعلى الهواء مباشرة من قناة (C.N.N) الأمريكية، التي حصلت على شهرة واسعة وقتها، من دون حضور لقنوات فضائية عربية في ذلك التوقيت -حيث تم إطلاق أول فضائية عربية في ديسمبر من ذلك العام وهي الفضائية المصرية- ودون وجود لمندوبي وكالات الأنباء العربية، رغم وقوع الحدث على أرض عربية!!

تسعفني الذاكرة هنا بواقعة غريبة من الماضي، وتحديدًا خلال هزيمة 1967 أمام الكيان الصهيوني، كان بطلها الراحل محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير الأهرام آنذاك، حيث كان الإعلام في مصر ينشر قصصًا وهمية عن انتصار كاسح، وإسقاط عشرات الطائرات للعدو، وقواتنا على مشارف تل أبيب وما شابه ذلك، في الوقت الذي كانت تبث فيه وكالات الأنباء الأجنبية أخبار الهزيمة الساحقة، فما كان من الأستاذ هيكل إلا أن أرسل سكرتيرته لإغلاق الحجرة التي تحتوي على أجهزة البث (التيكرز)، حتى لا يطلع أحد من الصحفيين -أكرر: من الصحفيين للأسف- على الأخبار الحقيقية!!

كانت الشعوب العربية خلال عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، تعتمد في استقاء الأخبار العالمية، والأخبار المحلية المهمة، على إذاعات لندن، وصوت أمريكا، ومونت كارلو، وحتى إسرائيل، ما دام الإعلام المحلي على هذا القدر من التعتيم، أو قُل التخلف، الذي لا يساير الركب العالمي، إلى أن تفوقت قناة CNN عام 1990 محدثة طفرة في هذا المجال، ثم انقلبت موازين الإعلام في المنطقة تمامًا بظهور قناة الجزيرة الإخبارية عام 1996، ولأن العواصم العربية لم تعتد على هذا النوع من الشفافية في الإعلام، كان من الطبيعي أن تدخل دولة قطر -مالكة القناة- في مشاكل جمّة مع الكثير من العواصم.

    الجزيرة فرضت واقعا جديدا ولكن..

حتى ذلك التوقيت، أذكر مقولة لوزير الإعلام المصري صفوت الشريف في تعليق على مجريات الأحداث: نحن لا نبعث مراسلينا إلى الأماكن الخطرة، يقصد مناطق الحروب والنزاعات!!

ثم فرضت قناة الجزيرة واقعًا جديدًا على المنطقة العربية كلها، ووسط محاولات بائسة لانتزاع مشاهدي الجزيرة، أو أكبر قد من المشاهدين، راحت بعض العواصم تطلق قنوات إخبارية منافسة، وتعتمد على مراسلين في مواقع الأحداث، إلا أنها لم تحمل على عاتقها عامل الشفافية أو الحياد فلم تحقق هدفها كما هو واضح؛ وبذلك كانت قناة الجزيرة سببًا رئيسيًّا في النهوض بمستوى الإعلام في المنطقة كلها من حيث الشكل، إلا أن هذا النهوض اصطدم من حيث المضمون بعقبات سياسية واسعة.

الغريب في الأمر أنه رغم أن القنوات الإخبارية العالمية، الناطقة بالعربية، أصبحت كثيرة، ومصادر الأخبار أصبحت متعددة، بموازاة المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي، وغيرها من الوسائل، فإن عملية التعتيم والتغييب ما زالت سياسة عربية خالصة، في إصرار واضح على استراتيجية ستينيات القرن الماضي، ووصل الأمر إلى قيام بعض الدول العربية بحجب مئات المواقع الإخبارية العالمية، وإغلاق عشرات المواقع المحلية، إمعانًا منها في تجهيل المواطن وإبعاده عن مجريات الأحداث.

في المقابل ظهر ما يسمى بعمليات تخطي الحجب، وهي برامج يستطيع القارئ أو المشاهد من خلالها إلى حد كبير تخطي حجب المواقع الممنوعة، التي هي في أغلبها سياسية إخبارية، ولم تُحجَب لأسباب أخلاقية أو دينية. ومع ذلك ظلت العقلية العربية الرسمية كما هي منذ حرب 1967 وحتى حرب العراق وإيران وإلى الآن، تعتقد أنها تسيطر على عقل الشارع أو عقل المواطن الذي يجب أن يعيش في غيبوبة من وجهة نظرها، من خلال حرب حقيقية إضافية، تقودها كتائب إلكترونية تشيع التزييف ونشر الشائعات، إلا أن المؤكد أن هذه العقلية سوف تكتشف ذات يوم أنها هي التي كانت تعيش حالة التغييب، وأن المواطن العربي كان أكثر ذكاءً وأوسع اطلاعًا، ولكن يحدث ذلك عادةً بعد فوات الأوان.

    رئيس تحرير "الأهرام" المصرية سابقاً

المصدر : الجزيرة مباشر