أيها الإخوان – يا شباب الله ورسوله وكتابه:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:

ففي مثل هذه الذكرى تتجدد آمال وتحيا مشاعر، وإن من حق هذه الذكريات علينا أن نتحدث فيها بعواطفنا ومشاعرنا. وآلامنا وآمالنا، وأن نكون في ذلك جد صرحاء. ولا يفوتني في مفتتح هذه الكلمة أن أحيي تلك الساعة المباركة التي جلست فيها إلى ستة من إخوانكم منذ أربعة أعوام نتذاكر فيها واجب شباب الجامعة نحو الإسلام، وقد تخرج من الستة اثنان هما موظفان ولولا أني أعلم كراهيتهم لذكر أسمائهم، ولولا أنني سعيد بتشجيع هذا الشعور فيهم لذكرتهم، ولكن حسبهم في جهادهم ثواب الله. في نهاية العام الثاني جمع هذا الحفل أربعين من إخوانكم، وفي نهاية العام الثالث كان عددكم ثلاثمائة، وها أنتم الآن في عامكم الرابع تزيدون ولا تنقصون (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ).

أيها الإخوان: قبل أن آخذ معكم في حديث الدعوة أحب أن أوجه إليكم هذا السؤال: هل أنتم على استعداد بحق لتجاهدوا ليستريح الناس؟ وتزرعوا ليحصد الناس؟ وأخيراً لتموتوا وتحيا أمتكم؟ وهل أعددتم أنفسكم بحق لتكونوا القربان الذي يرفع الله به هذه الأمة إلى مكانتها؟

من العاملين من يعمل ابتغاء مال، أو جاه، أو وظيفة، أو منصب، أو عرض من أعراض هذه الدنيا، ومنهم من يعمل ابتغاء ثواب الله ورضوانه في الآخرة، ومنهم من سمت نفسه ورق حسه، ودق شعوره، وتسامى عن مواطن المادة جميعاً، وانتقل إلى الملأ الأعلى، فأحب الخير للخير، وعمل الجميل لذاته، وشعر بأن ما يجد من حلاوة التوفيق لهذه المنزلة فيه الكفاءة لما بذل من تضحيات في سبيلها، وأدرك سر قول العارف: «حسبك من ثوابك على الطاعة أن رضيك مولاك لها أهلًا»، بل سر قوله تعالى: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، فإن كنتم من الصنف الأول فتخلوا حالاً عن هذا الميدان الكريم، فما أفلح فيه نفعي قط، ويأبى الله أن يكون دينه القيم أحبولة لجر المغانم الدنيوية الزائلة، وإن كنتم من الصنف الثاني فاعملوا راشدين فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وستجزون بالدرهم دينارًا وبالحسنة أضعافًا مضاعفة، (وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا). وإن كنتم من الصنف الثالث فبخ بخ وهنيئاً لكم السمو إلى ذلك العالم الملكي، والاتصال بهذا الملأ الروحاني، والدخول في حيز قوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ).

أيها الإخوان: إذا وضح هذا لديكم رأيتني أحب أن أتحدث إليكم في نقاط ثلاث: ماهية دعوتكم، موقفكم حيال ما يجب عليكم. وأظنكم ملاحظين أنني كثيرا ما أتحدث إليكم عن هذا الهيكل وأذكركم به فمعذرة إذ أنني أشعر دائما أننا في أشد الحاجة إلي التذكير الدائم.

دعوتكم أيها الإخوان سامية للغاية. أنتم تريدون أن تفهموا الإسلام على وجهه، ثم تعملوا به على وجهه، ثم تقنعوا الناس بما اقتنعتم به حتى إذا استوى صفكم واجتمعت كتيبة الله حولكم تخطيتم العمل الفردي إلى العمل الجماعي، أو بعبارة أخرى تمت لكم الواجبات الفردية وبقيت عليكم الواجبات الاجتماعية.

هذه الناحية الإيجابية في دعوتكم، أما الناحية السلبية فلستم طلاب حكم، ولكنكم طلاب منهاج وإصلاح ومبدأ، ففي اليوم الذي يتحقق فيه منهاجكم يكون في المحاريب مثواكم وإلى المساجد مراحكم ومغداكم، (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب). وليست الخصومة بينكم وبين الناس خصومة أشخاص ولا ذوات، ولكنها خصومة عقائد ومناهج، ويوم يعتنق أشد الناس خصومة لكم مبادئكم نغسل نحن جميعاً عن قدميه، ونسلمه الراية سعداء مغتبطين فرحين، لأننا نعلم أن الخفي في هذه السبيل خير من الظاهر، ونقرأ قوله تعالى: (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

يخطئ خطأً كبيراً من يتهكم بخصومة حكومة من الحكومات الإسلامية أو هيئة من الهيئات العامة، فإن موقف هذه الحكومات لا يعدو أحد أمرين: إما عاملة بالإسلام وللإسلام في حدود ظروفها وطاقتها فنحن أول أعوانها وأخلص أنصارها وخير من يشد أزرها ويعينها. على الإسلام، وإما متبرمة بالإسلام متآلبة عليه فهل يسع أي مسلم – ولو كان هذا المتهم – نفسه إلا أن يكون عليها لا لها؟.

ويمتاز الإخوان المسلمون في هذا عن الناس بأنهم يرون النصيحة على التشهير والفضيحة، والسلم والحب على التصادم والحرب، وبيان الوضع والقول اللين على الغلظة والجفاء. ذلك تعليم الله لرسله: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ).

ويأخذ الناس عليكم في دعوتكم أنكم لا تحققون مناهجكم في أنفسكم تحقيقًا تامًا. وأنا مع الناس في أن هذا صحيح إلى حد كبير، فنحن لا زلنا عاجزين عن تحقيق منهاجنا تامًا كاملاً في أنفسنا. ولا أحب أن نعتذر بأن معظم هذا العجز يرجع إلى الظروف أكثر مما يرجع إلى الأشخاص، فإن المقام مقام طموح إلى الكمال لا دفاع عن النقص.

ولكني أحب أن أنبه إلى الفارق بين الإخوان وبين غيرهم في هذا، فإن الإخوان يشعرون من أنفسهم بهذا ويعترفون، على حين يأخذ غيرهم في الدعوى العريضة، ويتسترون بخلابة الألفاظ. والإخوان مع هذا الاعتراف دائبون على طلب الكمال حتى يأخذوا منه بالنصيب الذي قدره الله لهم.

ويأخذ بعض الناس عليكم كذلك أنكم هادئون لا ثائرون، مبطئون في عصر السرعة، ويحملون ذلكم منكم على خور في العزم وضعف في الهمة ومداجاة ومواربة، فذكِّروا هؤلاء بقول القائل: «رب عجلة تهب ريثا»، وإن الله تبارك وتعالى حين علم نبيه ﷺ سبيل الدعوة إليه قال له: (دْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ولم يقل له بالسرعة والجفوة والغلظة. (ذَٰلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ)، وأفهموهم أن الإخوان إذا علموا أن السرعة ستهب لهم النجاح 99% وأن الحكمة ستهب لهم النجاح 100% فهم يؤثرون البطء الحكيم لإحراز النجاح الكامل.

ذلك اجتهادهم وهذا رأيهم فإذا جاءت السرعة التي يعلم بها الإخوان أن البطء والهدوء سيوقف تقدمهم أو يأخذ من انتصارهم فسيعلمون حينئذ كيف يذودون عن دعوتهم وكيف تكون الموتة الكريمة في سبيل الغاية العظيمة، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ).

إنكم دعاة تربية وعماد انتصاركم إفهام هذا الشعب وإقناعه وإيقاظ شعوره من كل نواحيه على قواعد الإسلام وتعاليم الإسلام ومبادئ الإسلام. وهذه غاية لا تدرك في أيام ولا تنال بأعوام قليلة، ولكنه الجهاد الدائب والعمل المتواصل ومقارعة جيوش الجهالة والأمية والمرض والفقر والأحقاد والأضغان وخفة الأحلام وتقطيع الأرحام، وتنظيف رواسب قرون عدة سرى الفساد فيها إلى كل مكان.

أفترون أو يرى الناس أن هذا أمر يسير؟ بل إن غايتكم أوسع من هذا فإنكم تريدون من هذا الشعب أمة نموذجية لتنسج على منوالها الأمم الشرقية جميعاً، وتريدون من هذه الأمم وحدة إسلامية تأخذ بيد الإنسانية جميعاً إلى تعاليم الإسلام.

هذه حدود مهمتكم التي يراها الناس بعيدة وترونها أنتم الإسلام الذي فرضه الله على عباده قريبا أم بعيداً؟ (فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۖ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ). وذلكم هو الشعاع الذي أشرق على قلوبكم من شمس قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) وحسبكهم هذه الليلة، ولعلي أتحدث إليكم بقية هذه الحديث بعد انتهاء امتحان إخوانكم وانضمامهم إليكم إن شاء الله تعالى فإلى اللقاء.

————————————

(*) من خطبة لفضيلة المرشد العام في طلاب الإخوان المسلمين من شباب الجامعة المصرية، وقد اختارها الإمام الشهيد وسطرها في «مذكرات الدعوة والداعية» وانتقاها من سيرته ورأى قبل أن يأتيه اليقين أن يضعها لإخوانه.