لقد اشتملت وصايا لقمان الحكيم لابنه على أصول التربية القويمة، التي لم تتفوق عليها نظريات التربية القديمة والحديثة أو تساويها في تلك الأصول التي أوردها الله سبحانه على لسان رجل وُصف بالحكمة، ومن هذه الأصول:

الأصل الأول: وخير المبادئ وأفضلها في الحياة وللأجيال، تلك التي تقوم على توحيد الله سبحانه ونبذ الشرك بكل صوره وألوانه: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13). لقد عرض القضية الأساسية، قضية توحيد الله الخالص، ثم دلل عليها: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وعرض صورة الحياة القويمة الصالحة المبنية على التقوى والمراقبة ثم برهن عليها.

الأصل الثاني: مراقبة الله- سبحانه وتعالى- في الأفعال والأقوال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.

وهذه ركيزة أساسية من ركائز التربية الصالحة، تأتي بعد قاعدة التوحيد التربوي، أكد عليها لقمان لترسخ في نفس الابن المربي رسوخ الجبال في الأرض، كما أنها قاعدة تربوية أصَّلها لقمان في توجيهاته لابنه، في الوقت الذي تكثر فيه النظريات التربوية الحديثة، متخبطة بين نظرية ونظرية، أو بين تجربة وتجربة، لأنها لم تؤصل التربية، ولم تبنها على أسسها الأولية السليم، لذا نراها تكثر المراقبة على الأجساد دون غرس الرقابة في الضمائر، ومن هنا تضخم جهاز الرقابة لفساد الوجدان، واختلال الشعور، وتضخمت العقوبات لتضخم الجرائم، وتلونت المشاكل لغياب المراقب الفعلي.

الأصل الثالث: إقامة الصلاة: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} وهذه تربية متكاملة، تربية روحية جسدية، وتربية أخلاقية اجتماعية، وتربية علمية ثقافية، ولا يستغني عنها الصغير ولا الكبير، ولا الغني ولا الفقير، فالصلاة تهذب الروح، وتقوي الجسد، وتنمي الفكر، وتزيل الفوارق، وتعلم الصبر، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتمحو الذنوب ، وتزيد الصلة بالله، وتؤكد العبودية، وتغرس الخشوع، وتثبت التقوى، وتنير البصائر.

الأصل الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ}. وكأن لقمان يشير إلى أن التربية السليمة للفرد تلك التي تنقل الفرد من العيش لنفسه إلى العيش للآخرين، والتضحية بنفسه لا لنفسه وإنما لأنفس الآخرين، وشتان بين فرد يتعب المجتمع ليحيا هو، وبين فرد يتعب نفسه ليريح الآخرين.

الأصل الخامس: المجالدة والصبر: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: 17). ويصور لقمان لابنه الأذى أو الابتلاء أنه واقع قد أصابه لأنه عبر عنه بالفعل الماضي "أصابك" ولم يقل: واصبر على ما يصيبك؛ فليس له خيار في ذلك إلا الصبر والعزيمة، وهو بهذا الأسلوب يلزم نفس المخاطب بالقبول في قضية تتردد النفس فيها، أو يصيبها الخور.

الأصل السادس: العزة والتواضع: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان: 18). والصعر معناه الميل، والمعنى ولا تمل خدك للناس احتقارا لهم، وكبرًا عليهم، وإعجابًا بنفسك، وإعراضًا عنهم، وإنما أقبل عليهم متواضعًا، هينًا لينًا، ومؤنسًا لهم، مستأنسًا بهم، وليس بعد هذه التربية تربية.. التربية التي تربي الفرد على العزة والاستعلاء على الدنايا مع التواضع والإيناس، وهي توازن بين كل جوانب الحياة.

الأصل السابع: الاعتدال في المشية والحركة: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}. وقد قيل: إن الحركة تعبير عن الشخصية، فصاحب الحركة الطائشة إنسان طائش مخدوع مغرور متكبر، وصاحب الحركة المتماوتة إنسان ذليل متماوت أبله، وصاحب الحركة المعتدلة إنسان معتدل متزن رصين.

الأصل الثامن: أدب المحادثة: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ} (لقمان: 19). والاعتدال في المحادثة لا يقل أهمية عن الاعتدال في الحركة، فالصوت العالي الجهوري إيذاء للسامع ورعونة عند المتكلم، والصوت الخفيف الميت مهانة للمتكلم وتهاون بالسامع، وخير الأصوات أعدلها نطقًا، وأخفضها سماعًا، وأكثرها ارتياحًا، وأقلها صياحًا.

الأصل التاسع: التربية بالموعظة: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ}. وهي لون من ألوان التربية الإسلامية، ولعلها من أنسب أنواع التربية، وخاصة في مثل هذا الموضع الذي يكون فيه المربي أو الموجه هو المسؤول عن الفرد المربى، وتربطه به علاقة دم أو صلة محب.

الأصل العاشر: المخاطبة والنصيحة بالعطف واللين: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِالله}: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ}: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ}. وهذه الطريقة أيضًا من أنجح الطرق في التربية، حيث العطف على الموجه والمحبة لهدايته، والتفاؤل في استجابته، ولقد أثبتت تجارب الحياة أن النفس البشرية ميالة إلى من يعطف عليها.