ممدوح الولي

 بعد مرور ثلاث سنوات فقط من انتهاء برنامج مصر مع صندوق النقد الدولي والذي أبرم عام 2016 واستمر لثلاث سنوات، عادت مصر لطلب عقد اتفاق جديد مع الصندوق منذ شهر مارس الماضي، بعد عودة جميع المشاكل الاقتصادية التي كانت تعاني منها عام 2016 في العام الحالي، وأبرزها نقص العملات الأجنبية في البنوك، مما دعاها إلى وضع قيود على الواردات، وعودة السوق السوداء للتعامل في الدولار، وشكوى الشركات الإنتاجية من نقص مستلزمات الإنتاج، والعمل بأقل من طاقتها الإنتاجية وأن كثيرا منها أصبحت مهددة بالإغلاق.

وتراجعت أرصدة الاحتياطيات من النقد الأجنبي، مما أثار قلق الموردين وزاد من شروطهم، وتحولت النظرة المستقبلية للاقتصاد إلى سلبية لدى إحدى وكات التصنيف الدولية. وخرجت الأموال الساخنة التي كان البنك المركزي يعتمد عليها لتقوية أرصدة الاحتياطيات من العملات الأجنبية، ولا تنتظر عودتها في ضوء ارتفاع أسعار الفائدة بالأسواق الأمريكية والأوروبية والعديد من البلدان المتقدمة، والتي يتوقع الاستمرار في رفعها لمواجهة معدلات التضخم المرتفعة بها.

وكذلك عزفت الاستثمارات الأجنبية المباشرة عن القدوم انتظارا لما سيفسر عنه الخفض المرتقب للجنيه المصري أمام الدولار، وترقبا لعودة نسبة التضخم المحلية إلى خانة الآحاد التي فقدتها خلال شهور العام الحالي لتصبح مكونة من رقمين؟ وما زالت السياحة الأوكرانية لمصر والتي تشكل نسبة معتبرة من مجمل السياحة الواردة، متوقفة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.

التوسع بالقروض لم يحل المشاكل الاقتصادية

حتى تحويلات المصريين العاملين بالخارج تراجعت قيمتها خلال شهر يونيو الماضي عما كانت عليه بنفس الشهر من العام الماضي، نظرا لتحول جانب منها للتعامل مع السوق السوداء الأكثر سعرا، والصادرات المصرية مهددة بالتأثر بالركود المتوقع في لأسواق الأوروبية التي المكون الأكبر لها.

ويظل السؤال: هل ما حدث من عودة لنفس المشاكل بسبب نقص العملات الأجنبية؟ لقد وفر الصندوق لمصر خلال سنوات برنامجه الثلاث 12 مليار دولار، ووفرت دول وبنوك إقليمية 12.3 مليار دولار بجانب ذلك، كما استمر الصندوق في إقراض مصر بنحو 1.8 مليار دولار في مايو 2020، و5.2 مليار دولار أخرى في الشهر التالي، كما منحها حقوق سحب خاصة قيمتها 2.6 مليار دولار بشهر أغسطس من نفس العام لمساندة احتياطي عملاتها وتم استخدامها بالفعل.

كما أن مصر لم تكتف بالاقتراض من الصندوق ومن الدول والبنوك الإقليمية التي رافقت قرض الصندوق الأول، وإنما استمرت بالاقتراض من جهات أخرى منذ ذلك الحين وحتى الآن، مما رفع أرصدة قروضها الخارجية من 60.153 مليار دولار بنهاية سبتمبر 2016، إلى 157.801 مليار دولار بنهاية مارس من العام الحالي، بزيادة 97.6 مليار دولار خلال خمس سنوات ونصف بمتوسط سنوي 17.8 مليار دولار للزيادة.

وهكذا لم يكن نقص العملات الأجنبية سببا مباشرا في عودة المشاكل التي كان يعاني منها الاقتصاد عام 2016 مرة أخرى في العام الحالي، ويعزز ذلك التفسير أن النظام المصري حصل على حوالي 14 مليار دولار معونات خليجية ما بين منتصف 2013 وحتى 2015، بخلاف تسعة مليارات دولار وديعة خليجية كانت في البنك المركزي المصري تم استخدامها حينذاك في الموازنة، ومع ذلك ظهرت مشكلة نقص الدولار بحدة عام 2016، رغم ما كان يتم من قِبل دول الخليج بتأجيل أقساط الديون بل ومنح النظام المصري قروضا جديدة.

وصفة الصندوق لا تتسق مع الأوضاع المحلية

لذا يصبح الاتهام حول عدم صلاحية وصفة الصندوق لحل مشاكل الاقتصاد المصري هو الأمر الأكثر احتمالا، ويعزز ذلك أن اتفاق مصر مع الصندوق عام 2016 لم يكن الأول من نوعه، حيث سبقته خمس اتفاقيات، كان أولها برنامج التثبيت عام 1962 لمدة عام، وثانيها برنامج التثبيت عام 1964 لمدة عام، وثالثها برنامج التصحيح الهيكلي عام 1978 لمدة ثلاث سنوات، ورابعها برنامج التثبيت عام 1987 لمدة سنة، وخامسها برنامج التثبيت عام 1991 لمدة عام ونصف.

فوصفة الصندوق عادة ما تركز على الإصلاح المالي والنقدي، من خلال خفض الإنفاق بواسطة تقليل الدعم وتقليل عدد الموظفين بالحكومة وتقليل الاستثمارات العامة، وزيادة الإيرادات من خلال فرض المزيد من الضرائب والرسوم وتقليل الواردات، ومرونة سعر الصرف ورفع معدلات الفائدة، وتحرير المعاملات المالية مع الخارج.

وهكذا فإن رزم حلول الصندوق تساعد فقط على حل المشكلات المالية والنقدية، لكنها لا تعالج الأسباب الجذرية ولا تمثل إصلاحا اقتصاديا بالمعنى الشامل، ولهذا تتكرر الأزمات المالية والنقدية، التي تعود أساسا إلى العجز المزمن في الميزان التجاري نتيجة زيادة الواردات على الصادرات، فحين يدفع الصندوق نحو تقليل الواردات فإنه بذلك يضر الصادرات المصرية التي تعتمد بنسبة 60 في المائة على مكونات مستوردة.

ويشير التوزيع النسبي لسلع الواردات المصرية في العام الماضي حسب بيانات جهاز الإحصاء الرسمي، إلى بلوغ نسبة المواد الخام من الواردات 13 في المائة، والسلع الوسيطة 34.6 في المائة، والسلع الاستثمارية 12.7 في المائة، ليصل نصيب المكونات الثلاثة إلى 60.3 في المائة، وذلك بخلاف أنواع الوقود التي تستحوذ على نسبة 12 في المائة من الواردات.

وحتى السلع الاستهلاكية التي يبلغ نصيبها حوالي 28 في المائة من الواردات، فكثير منها ليس لها بديل محلي كاف للاستهلاك، مثل الفول الوجبة الشعبية الأولى بالبلاد، والزيوت المكررة التي تقل نسبة الاكتفاء الذاتى بها عن نسبة العشرة في المائة، والشاي الذي لا تتم زراعته محليا، وغير ذلك مثل أعلاف الحيوانات واللحوم والأسماك والأدوية.

وهكذا فإن القطاعات الإنتاجية الضرورية لخلق الوظائف وتوليد النمو الحقيقي، لا تستطيع النمو بدون زيادة الواردات، ولكسر تلك الحلقة لا بد من تطوير قطاع صناعي أقل اعتمادا على الواردات. كما أن قروض الصندوق عادة ما تتجه لتمويل عجز الموازنة المزمن، ولأن غالب تلك المصروفات جارية وليست استثمارية، فإنها لا تولد عوائد مستقبلية تساهم في خدمة الديون عند استحقاقها، أي أنه كان اقتراضا لتمويل الاستهلاك.

مطلوب برنامج إصلاحي مرافق للاتفاق مع الصندوق

ولهذا دعا عدد من الخبراء حتى من أنصار النظام الحاكم عند عقد الاتفاق مع الصندوق عام 2016، إلى عدم الاكتفاء بوصفة الصندوق للإصلاح باعتبارها غير كافية وحدها لتحقيقه، وضرورة وجود خطوات مصرية مساندة لذلك الاتفاق تعالج المشاكل الأساسية بالاقتصاد المصري، وأبرزها الفجوة بين الصادرات والواردات، والفجوة بين الادخار والاستثمار، وإعادة النظر في المشروعات القومية التي لا تمثل أولوية، وتشجيع دور القطاع الخاص وتحسين مناخ الاستثمار، لاستعادة الثقة المفقودة بعد استحواذ الهيئات المدنية والعسكرية التابعة للدولة على النصيب الأكبر من الاقتصاد، وإعادة الاعتبار للمؤشرات الاقتصادية الرسمية التي لا تحظى بثقة الخبراء حاليا، مثل معدلات التضخم والبطالة والفقر وغيرها، وإعطاء المزيد من الحريات وحكم القانون والرقابة البرلمانية، والشعبية من خلال دور المجتمع المدني والنقابات.

لكن ما حدث خلال تنفيذ وصفة الصندوق منذ عام 2016، كان المزيد من الإنفاق على القصور الرئاسية بل وشراء طائرات رئاسية، وعلى المشروعات القومية وبناء عاصمة جديدة فيها الكثير من مظاهر الترف؛ كمطار جديد لا يبعد كثيرا عن مطار القاهرة، وربطها بقطار كهربائي ومونوريل بخلاف الأتوبيسات العامة رغم أنه لم يسكنها أحد بعد، ومدن جديدة سياحية مثل العلمين الجديدة، بما تحتاجه تلك المشروعات من نقد أجنبي، رغم استمرار العجز في الحساب الجاري خلال سنوات تنفيذ الاتفاق مع الصندوق.

فقد بلغ العجز خلال العام المالي الأول للاتفاق 14.4 مليار دولار، وفي العام الثاني ستة مليارات دولار، وفي العام الثالث 11 مليار دولار، واستمر نفس رقم العجز في العام الرابع، ليرتفع إلى 18.4 مليار دولار في العام الخامس، كما بلغ 13.6 مليار دولار خلال الشهور التسعة الأولى من العام المالي 2021-2022، والذي يمثل العام المالي السادس للاتفاق مع الصندوق ولم تصدر نتائجه السنوية الكاملة بعد.

ومن هنا فإن القرض الجديد المتوقع إعلانه مع الصندوق قريبا، إذا لم يقترن ببرنامج مواز لإصلاح اقتصادي جذري، يركز على القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية والخدمية التي تزيد من قيمة الصادرات وتقلل العجز التجاري، والتركيز على الصناعات الأقل اعتمادا على المكونات المستوردة، والإنفاق على المشروعات ذات الأولوية الجماهيرية، والتي تدر عوائد تساهم في سداد أقساطها وفوائدها عند استحقاقها، فسوف يضيع هذ القرض والقروض من غيره من الدول والبنوك الإقليمية مثلما حدث من قبل، حيث تعود الصندوق أن ترافق قرضه قروض أخرى موازية من جهات أخرى لتنويع المخاطر وضمان سداد أقساط قروضه.

twitter.com/mamdouh_alwaly