إن أساس النجاح لكل نهضة أو جماعة أو تنظيم أيا كان:
- هدف محدود إليه يقصدون - ومنهاج محدود عليه يعملون
- وقوم يعملون في حدود هذا المنهاج، لا يملون ولا يفترون ولا يسأمون ولا يمتنون، حتى يصلوا إلى ما إليه قصدوا وله عملوا.
كان ذلك الأمر واضحا جليا في ذهن الإمام البنا – رحمه الله – وهو يؤسس هذه الجماعة المباركة، فوضع لها مبادئ خمس، ومظاهر خمس توضح الهدف والمنهاج والعمل المطلوب ممن ينتمون إليها:
«تستطيع أن تجمع هذه المبادئ في خمس كلمات: الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن شرعتنا، والجهاد سبيلنا، والشهادة أمنيتنا. وأن تجمع مظاهرها في خمس كلمات أخرى: البساطة، والتلاوة، والصلاة، والجندية، والخلق» رسالة التعاليم.
فلا بد من:
1- وضوح الهدف (الغاية): (قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَأيَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163)) الأنعام،
2- ووضوح المنهج (الفكرة): (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ (19)) الجاثية.
3- وتحديد العاملين بالمنهج للوصول إلى الغاية (التنظيم أو الجماعة): (إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4)) الصف،
فجمع الإخوان على: غاية واحدة (هدف واحد)، وعلى فكرة واحدة (منهج واحد)، وضمهم في صف واحد (التنظيم)، فاجتمع لهذه الجماعة بذلك:
وحدة الغاية مع وحدة المنهج مع وحدة التنظيم (الصف)، فكانت أواصر ثلاث:
* (آصرة الروح) فى وحدة الغاية أو الهدف،
* و(آصرة الفكرة) فى وحدة المنهج ،
* و(آصرة التنظيم) فى وحدة الصف. فحفظت هذا الكيان الكبير الذي سمي (جماعة الإخوان المسلمين).
وقد أدرك الإمام – رحمه الله – أنه وهو ينشر هذه الفكرة ويطرحها سوف يؤدي ذلك في واقع متربص، فيه تيار جار متدفق فياض من مبادئ ودعوات، ونظم وفلسفات، وحضارات ومدنيات، نافست هذه كلها فكرة الإسلام في نفوس أبنائها، وغزت أممه في عقر دارها، وتهيأ لها من أسباب الإغراء والإغواء والقوة والتمكن ما لم يتهيأ لغيرها من قبل، تهتف بها أرجاء الكون، وتسري بها أمواج الأثير في أنحاء المعمورة، مجهزة بكل ما يغري ويخدع من الوعود والمظاهر والآمال.
ولذلك أسرع إلى التنظيم من أجل نشر هذه الفكرة حتى يفقهها الرأي العام ويناصرها عن عقيدة وإيمان، فوضع لهذا التنظيم قواعد صارمة تحفظه قويا حتى يصمد لما يقف في طريقه من عقبات، ويتغلب على ما يعترضه من مصاعب، ليؤدي به دوره المنتظر في هذا الواقع المتربص، ووصفها بأنها تعليمات تنفذ وليست دروسا تحفظ.
وإلى هؤلاء كان يقول: «إلى هؤلاء الذين آمنوا بسمو دعوتهم وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها، أركان بيعتنا عشر فاحفظوها: – الفهم والإخلاص والعمل والجـهــاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخـوَّة والثقة» رسالة التعاليم.
(1) الفهم: –
محدد في أصول عشرين، ليعطي لكل عقبة ما تحتاجه من الجهد.وقد تعرض فيها لقضية شمولية الإسلام، ومصادر التشريع، والعقيدة، والخلاف الفقهي والبدعي، وزيارة القبور، ومحبة الأولياء والصالحين، وإنكار المنكر، والخلاف بين العقل والوحي، وتكفير المسلم، وكلها كانت قضايا شائكة وكانت مثار خلاف.
فكان كما يقولون: «ينتظرها في صبر، ويواجهها في جرأة، ويعلو عليها في ثقة، ويفضها في سهولة ويسر وبساطة، ويذهب عنها التعقيد، لتبدو هينة لا تحتاج إلى ضجة ولا إعنات، لأنه كان يريد جمع الكلمة وتوحيد الصف، حتى تظل الأخوة قائمة، والوحدة مجتمعة».
حيث قال عنها: «ولقد أردت أن أضع أمام أنظار المفكرين من رجال الإسلام هذه الصيغ التي أعتقد أنها تقرب إلى أقصي حد بين وجهات النظر المختلفة، مع موافقتها للحق إن شاء الله، رجاء أن يطيلوا فيها النظر، حتى إذا رأوها صالحة لجمع الكلمة، اتخذنا منها أساسا للأخوة، وجمعنا عليها شعب الخلاف، ورددنا المتفرقين إلى الأصل».
(2) الإخلاص: –
يعني الاحتراف رغبة في الآخرة، وما عند الله من الرضا والمتاع. «بأن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله، وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر»
(3) العمل: –
له مراتب، ليجعل هدفه ضمن مجال مستطاع يسهل تحقيقه، «إصلاح نفسه، وتكوين بيت مسلم، وإرشاد المجتمع، وتحرير الوطن، وإصلاح الحكومة، وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، وأستاذية العالم»، ثم يقول: «وما أثقلها تبعات، وما أعظمها مهمات، يراها الناس خيالا، ويراها الأخ المسلم حقيقة، ولن نيأس أبدا، ولنا في الله أعظم الأمل (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21))».
(4) الجهاد: –
درجات، ليبتعد به عن الجهاد العبثي الزائد عن الحاجة، يضن بأوقات الأمة ودمائها أن تسفك في غير موجب، أو تنفق في غير طائل، أو تدخل الأمة في صراع عبثي زائد عن الحاجة، لا يحل قضية ولا يخدم أحدًا، وهو ما يقع فيه الكثير من الناس، «وأول مراتبه إنكار القلب وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك جهاد اللسان والقلم واليد وكلمة الحق عند السلطان الجائر».
(5) التضحية: –
بضوابط، بعيدا عن المغامرة بالشعار، والمقامرة بالمجهود، «بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية»، حيث يقول: – «فلا تغامروا بجهودكم، ولا تقامروا بثمار نجاحكم، واعلموا أن الله معكم ولن يتركم أعمالكم».
وحتى تكون التضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، وضع لها ضوابط: –
«تخير الظرف المناسب، واستخدام منتهي الحكمة فيه، وإنفاذه على نحو أخف ضررا، وأبلغ في الدلالة على المقصد».
(6) الطاعة: –
– مراحل، من أجل تنفيذ المطلوب،
– التعريف: ليست الطاعة التامة لازمة في هذه المرحلة، بقدر ما يلزم فيها احترام النظم والمبادئ العامة للجماعة.
– التكوين: الدعوة فيها خاصة لا يتصل بها إلا من استعد استعدادا تاما حقيقيا لتحمل أعباء جهاد طويل المدى كثير التبعات، وأول بوادر هذا الاستعداد كمال الطاعة.
– التنفيذ: ولا يكفل النجاح في هذه المرحلة إلا كمال الطاعة.
حتى لا يترك الأمر للتوافق «حتى لا يكون للرأي فيه تردد ولا للهوي فيه خيار»، من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج.
(7) التجرد: –
لأنه يعمل في واقع متربص، وحتى يخرج من الخطأ والتجاوز فيه وضع لكل حكمه، حيث يقول: – «والناس عند الأخ المسلم واحد من ستة أصناف: مسلم مجاهد، أو مسلم قاعد، أو مسلم آثم، أو ذمي أو معاهد، أو محايد، أو محارب، ولكل حكمه في ميزان الإسلام، وفي حدود هذه الأقسام توزن الأشخاص والهيئات، ويكون الولاء والعداء».
(8) الثبات: –
يعني رؤية واضحة تمنع مزالج التشوش الروحي الذي يفقد النفس الحماسة للعمل، فإذا كانت الغاية غامضة أدت إلى تشوش روحي أفقد النفس الحماسة للعمل.
«أن يظل الأخ عاملا مجاهدا في سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام، والوقت عندنا جزء من العلاج، والطريق طويلة المدى بعيدة المراحل كثيرة العقبات، ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة».
(9) الأخوة: –
نقطة انطلاق تعني حماية الآخرين، «وأريد بالأخوة: أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، وأقل الحب: سلامة الصدر، وأعلاه: مرتبة الإيثار، (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9). والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم، فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، (وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، (والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا). (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة: 71)، وهكذا يجب أن نكون».
(10) الثقة: –
بمعني الاطمئنان، الاطمئنان إلى القيادة في كفاءتها وإخلاصها اطمئنانا عميقا، وإلى صحة حكمها في أغلب الأحيان، لا مجال فيها للجدل ولا للتردد، ولا للانتقاص ولا للتحوير، مع إبداء النصيحة والتنبيه إلى الصواب، ثقة تنتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة.
وهذه الأركان للبيعة تشير إلى ما يحتاجه الفرد والجماعة لتكوين لبنات قوية في صف مترابط:
– ففي مجال الحركة نحتاج إلى هذه الأركان: – (العمل والجهاد والتضحية).
– وفي مجال التنظيم والصف نحتاج إلى: – (الطاعة والأخوة والثقة).
– وفي مجال الاعتقاد نحتاج إلى: – (الفهم والإخلاص والتجرد).
ثم يحتاج الفرد في كل ذلك وطول حياته إلى: – ركن الثبات لتحقيق هذه الأركان كلها، وإلى ثباته على مبادئه وبيعته والتزامه بالجماعة، وكلها تحافظ على هذه الأواصر الثلاث (آصرة الروح، وآصرة الفكرة، وآصرة التنظيم)، كما أن هذه الأركان مترابطة، فالضعف والخلل في إحداها يؤدي إلى الضعف في بقيتها.
تلك عشرة كاملة حافظت على كيان هذه الجماعة المباركة من كل ما تعرضت له على على مدي أكثر من ثمانية عقود، أراد المغرضون خلالها اختصارها في قاعدة واحدة هي: الطاعة وزعموا أنها طاعة عمياء، متناسين عمدا أو سهوا أو جهلا القواعد الباقية، وأنه يسبقها حسب ترتيب الإمام البنا – رحمه الله -: الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية، ويليها: الثبات والتجرد والأخوة والثقة.
ولو أن جماعة غيرها تعرضت لمعشار ما تعرضت له هذه الجماعة لأصبحت الآن نسيا منسيا، ولم يعد لها ذكر ولا ذكري، فكانت هذه القواعد الصارمة بعد توفيق الله وحفظه ورعايته صمام أمان لها في كل حين.
هي قواعد ملزمة لكل من آمن بهذه الفكرة وانتمي إلى تنظيم يعمل لها، وهذا الأمر حقٌّ من حقوقها كأي جماعة، ملزم وثابت لجميع أفرادها، ولذلك تحتاج فرداً:
«دائم التفكير، عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد، إن دعي أجاب، وإن نودي لبي، غدوه ورواحه، وحديثه وكلامه، وجده ولعبه، لا يتعدي الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوي المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته يجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه، وتري في بريق عينيه، وتسمع في فلتات لسانه، ما يدلك على ما يضطرم في قلبه من جوي لاصق، وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزيمة صادقة، وهمة عالية، وغاية بعيدة، يعد روحه وعقله وجسمه للجهاد الطويل الذي ينتظره في مستقبل الأيام».
أما من هم غير ذلك من أفراد وكيانات «أولئك الذين لم يؤمنوا بها، أو آمنوا بها ولم ينتموا إلى تنظيم يعمل لها»، فمع تقديرهم واستمرار التعاون معهم، فليس يلزمهم شيء من ذلك، ويقول لهم الإمام – رحمه الله -:
«ومن قعدت به ظروفه، أو صعبت عليه تكاليف الجهاد، فليبتعد عن الصف قليلا، وليدع كتيبة الله تسير، ثم فليلقنا بعد ذلك في ميدان النصر إن شاء الله، ولينصرن الله من ينصره».
وقال كذلك للمتحمس الذي يستعجل النتائج دون الالتزام بالخطوات التي رسمتها الجماعة لنفسها:
«ومن أبي إلا الفورة الوقتية، والجماعة العاطفية، أو التهور الذي أعتقد أنه لا يجدي، فإن الله غفور رحيم، ولينصرف عني إلى حيث شاء، ولعله أهدي مني سبيلا، وأقوم طريقا».
فهؤلاء ليس عليهم أن يقتنعوا بتلك القواعد أو يلتزموا بها طالما هم خارج الجماعة وتنظيمها.
وبهذه القواعد الصارمة كان الإمام البنا – رحمه الله – يدرك أنه ينشئ كفاحاً ناجحاً، لأنه يعني عملاً منظماً، يستمد فيه تأييده من أمته، ويستمد فيه البركة من الله.
إن هذه الأواصر ممثلة في هذه الأركان العشرة، أو تلك القواعد الصارمة، هي التي تحفظ الجماعة المؤمنة من الانشقاقات وتبقي على:
– تماسكها ووحدتها وقوتها
– والتفاف أبنائها حول قيادتها
– وثقتهم في قراراتها
– وتبنيهم لتوجهاتها
– واتعاب أبدانهم في تحقيق أهدافها.
فيا جند الله هذه هي أواصركم:
– بآصرة الروح تبقون أطهارا موحدين.
– وبآصرة الفكرة تبقون راشدين مسددين.
– وبآصرة التنظيم تبقون أقوياء متساندين.
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ (108))، يوسف.
وصلي اله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه