وائل قنديل

لم يبق من معاني انتصار أكتوبر 1973 إلا أوبريتات غنائية تتحرّى التلفيق، وندوات تثقيفية تستعمل ذكرى النصر على نحو يبتذل ما جرى، ويحيله إلى مادةٍ دراميةٍ وإعلامية لا تختلف كثيرًا عما تنتجه ورش الدراما العسكرية في مصر، من خلال شركاتها السيادية المحتكرة سوق الفن والإعلام.

تاريخيًا، كان كل جنرال عسكري يصل إلى حكم مصر يتناول عبور السادس من أكتوبر باعتباره من ممتلكاته، يحكي عنه ويؤرّخ له بالطريقة التي تعضد وجوده في السلطة وتمنحه جدارة تاريخية، فكان أنور السادات، أخذًا في الاعتبار أنه كان القائد الفعلي لتلك المعركة، يتحدّث عن "أكتوبره" الخاص، وكأنه ليس قبله أو بعده شيء، مطلقًا عبارته الشهيرة إنه "آخر الحروب". وفيما بعد، جاء حسني مبارك، فكان لابد أن تختزل ملحمة العبور في الضربة الجوية وقائدها، انعكس ذلك في كتابات الكتبة وأغنيات المغنّين، وكأن المعركة كانت في الجو بالأساس، وكل ما عدا ذلك هامشي، ليكون الجنرال مبارك حاكمًا للبلاد بشرعية أكتوبر، مثل أنور السادات الذي حاول مؤرّخون تجريده من شرعية يوليو 1952.

في سنة حكم الرئيس الشهيد محمد مرسي، وفي الاحتفال الوحيد الذي حضره في ذكرى الانتصار، حضر إلى الذاكرة أبطالٌ كثيرون منسيون، أو تم تجاهلهم ومحاولة تهميشهم، حتى أن السيدة جيهان أرملة أنور السادات قالت ما يشبه القصائد في الدكتور محمد مرسي الذي أعاد الاعتبار لزوجها وللتاريخ الحقيقي، حين منح  قلادة النيل لاسم زوجها في احتفالات ذكرى حرب أكتوبر 1973. وهناك الجنرال يوتيوب يمكن أن تجد عليه ما أخرجته جيهان من صندوق جواهرها من فنون الإطراء والثناء والحمد، التي طوّقت بها عنق الرئيس، ممتنّة لهذا التكريم التاريخي غير المسبوق لزوجها، بعد حرمان 30 عاما، هي فترة حكم مبارك.

نحن الآن، ومنذ تسع سنوات في مرحلة الجنرال الذي لم يشاهد حرب أكتوبر إلا في أفلام محمود ياسين وغيرها من أعمال سينمائية ضعيفة لا تليق بالحدث العظيم، لكنه أيضًا يريد قضمةً من كعكة شرعية أكتوبر العسكرية، فلم يعدم، في ندواته التثقيفية، وجود عسكريين سابقين يقومون بحك الذاكرة حتى يتطاير منها شرر النسب بين الجنرال والحرب التي لم يخضها.

أما في احتفال هذا العام، وفي حديثه بالأمس، فقد قرّر أن يخترع تخريجة أخرى تجعله من أبطال أكتوبر، تقوم على أن المعركة لم تنته في العام 1973 ولا حتى في 1982 مع رفع العلم المصري على طابا في سيناء، بل هي مستمرّة، وها هو يقود العبور الذي انطلق ظهيرة السادس من أكتوبر 73 في اتجاه العاصمة الإدارية والجمهورية الجديدة، ليصبح القتال ضد العدو الاستعماري الذي اغتصب الأرض وقتل البشر وسرق التاريخ والجغرافيا مساويًا لحرب استنزاف مصر بالقروض والديون الخارجية التي لا يبرع الجنرال في شيءٍ سوى جلبها من المانحين، لكي يبني أكبر جامع وأعلى برج وأضخم سور حول عاصمة جديدة لجمهوريةٍ جديدةٍ محرّم على الغالبية الكاسحة من الشعب المصري دخولها، ثم يسمّي ذلك معجزة تضاهي نصر أكتوبر، بل تفوقه كونه يرى فيما يرى الحاكم بأمره أن مصر بقيت متوقفةً، ومصابة بالشلل لا تتحرّك ولا تنتج شيئًا سوى الطاقة الإنجابية طوال 15 عامًا من 1967 حتى 1982، وهو ما يعني مباشرة أن الرجل أفضل من جمال عبد الناصر وأنور السادات معًا، لأنه متفوقٌ عليهما بأنه يحقق المعجزات والانتصارات على الأعداء الأشرار، الذين هم جمهور ثورة يناير 2011 من دون أن تتوقف البلاد عن الحركة والتقدّم.

يعلم القاصي والداني أن مصر طوال عشر سنوات  لا تتحرّك إلا في اتجاهين، الأول في طريق الاقتراض والاستدانة ورهن المستقبل للدافعين، والثاني في سكّة القمع والقهر وإنتاج الأوهام الفاخرة عن الزعيم الملهم الذي لم تكن البلاد قبله شيئًا مذكورًا.

 كل عام ورجال أكتوبر الحقيقيون بخير.