ومازلنا نتحدث عن الاستيعاب الداخلي ( أي داخل الصف ) والجزء الثاني من المرحلة الأولى: الاستيعاب العقائدي التربوي

سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في تكوين المسلم

لقد نهجت السنة النبوية الشريفة نهجاً فريداً في تكوين الفرد بما يتناسب مع كمال المنهج الإسلامي والفطرة التي فطر الله الناس عليها ..

فلم يكن المنهج النبوي في تكوين الفرد ذا طابع روحي بحت يسقط من حسابه لحاجات المادية العضوية كما لم يكن منهجاً مادياً محضاً شأن المناهج الوضعية والفلسفات المادية ..

فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم نظرت إلى الإنسان وعاملته كإنسان متكامل الميول والنوازع والحاجات؛ فهي لم تتعامل معه كملاك كما أنها لم تعتبره حيواناً كبقية الحيوانات ليس إلا ..

قواعد أساسية من السنة :

فيما يلي سنعرض لعدد من القواعد التي بينتها السنة النبوية الشريفة في نطاق التكوين والتي من شأنها بناء الفرد بناء سليماً لا تفريط فيه ولا إفراط ..

1- تغليب الإيجابية على السلبية

فقد كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حرباً على السلبية والجمود والتقوقع والرهبانية من أول يوم؛ فدعوة الإسلام دعوة حية متصلة بالحياة بكل ما تعنيه كلمة الحياة من معنى ..

فهناك فريق من المسلمين فهموا الإسلام فهماً ضيقاً دفعهم إلى تعطيل طاقة الفرد وحيويته وإنتاجه بحجة العزوف عن الدنيا والمبالغة في الزهد والإقبال على الله .. فمنهم من اعتزل المجتمع ومنهم من تخلى عن الوظيفة، بل إن منهم من دفعه غلوه إلى الامتناع عن الصلاة في المساجد العامة بحجة أنها تابعة لمؤسسة رسمية كوزارة أوقاف أو ما شاكل ذلك!!

وهذا النهج فضلاً عن كونه يصطدم اصطداماً مباشراً بطبيعة الإسلام الحركية فإنه يسهل على أعداء الإسلام اختلال مراكز القوى في بلاد المسلمين والحيلولة دون عودة هذه البلاد إلى قيام الإسلام ومنهجه في الحياة .

وفيما يلي بعض الشواهد النبوية التي ترفض هذه الظاهرة :

-لقد رؤي أحد المسلمين في عصر النبوة معتزلاً الناس يتعبد على رأس جبل فأتي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له : ((لا تفعل، أنت ولا أحد منكم لصبر أحدكم في بعض مواطن الإسلام خير له من عبادة أحدكم أربعين عاماً )).

- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد )) رواه أحمد في مسنده .

-ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )).

2- تغليب الاعتدال على التطرف

وقاعدة أخرى من قواعد التربية والتكوين في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتتمثل في الحض على الاعتدال والنهي عن التطرف والغلو ..

- ففي إطار الالتزام الشخصي بالإسلام يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الغلو والتنطع فيقول : ((ألا هلك المتنطعون .. ألا هلك المتنطعون )) ويقول :(( إن هذا الدين شديد فأوغلوا فيه برفق))

- وفي إطار الدعوة واجتذاب الناس إلى الإسلام يقول الرسول ((يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا )) وفي ذلك ترجمة صادقة لقوله تعالى: { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } وقوله { أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } .

وأوضح دليل يمكن أن يساق على نهج اعتدال السنة النبوية الشريفة في تكوين الفرد ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: (( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم: أما أنا فأصلى الليل أبدا .. وقال الآخر وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر .. وقال الآخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا .. فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله أنى لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منى ..))

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدلجة ))رواه البخاري .

3- القليل الدائم خير من الكثير المنقطع

ومن القواعد النبوية كذلك الحض على الاستمرارية والديمومة في أعمال البر والخير مهما كانت ضئيلة لأنها تكون بذلك أصيلة ومستطاعة وفي مقدور الإنسان القيام بها من غير عناء ..

وفي أكثر الأحيان تكون الالتزامات القاسية والأعمال الكثيرة التي يقوم بها الإنسان وليدة ردة فعل مؤقتة لا تلبس أن تخب تضعف قد تتلاشى تدفع بصاحبها في اتجاه معاكس تماماً .. كما قد تكن مدخلاً من مداخل العجب إلى النفس في ذلك هلاكها كذلك ..

من هنا كان توجيه النبي يؤكد على الاستمرارية في أعمال البر الخير دونما اهتمام بحجم هذه الأعمال

بل من هنا كان الحرص على خواتيم الأعمال ليس على مطالعها .

- فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه سلم دخل عليها عندها امرأة قال : من هذه ؟ قالت : هذه فلانة تذكر من صلاتها قال :((مه ، عليكم بما تطيقن فالله لا يمل الله حتى تملا )).

-وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال لي رسول الله ((يا عبد الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ))متفق عليه .

-في رواية عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : ((أدومها وإن قل )).

-وفي رواية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل )) رواه البخاري ومسلم .

-وفي رواية (( كان أحب الأعمال إلى الله عز وجل الذي يدوم عليه صاحبه ))رواه مالك والبخاري - وفي رواية ((القليل الدائم خير من الكثير المنقطع )).

منقول بتصرف من كتاب "الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية " للدكتور فتحي يكن رحمه الله .