فتحي السيد
أراد الله سبحانه وتعالي أن يتربى الجيل الأول مع الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم؛ فكان يتنزل عليهم يوضح لهم ملامح دعوتهم، وحقيقة الطريق، ويتفاعل معهم فى أحداث حياتهم اليومية، ويعالج ما قد يظهر من اضطرابات أو أمراض حتى كان الجيل الذي عبر عنه النبي صلي الله عليه وسلم ؛ فعن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ ) . رواه البخاري
ولن يتحقق لنا ما تحقق للسلف إلا عندما نعيش مع الفرآن كما عاشوا ولنا اليوم وقفة مع قوله تعالى: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)﴾ سورة القصص
[يقول صاحب الظلال – عليه رحمة الله - هذه السورة مكية، نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان . نزلت تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، نزلت تقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود ,هي قوة الله، وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون , هي قيمة الإيمان . فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه، ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة، ولو ساندته جميع القوى، ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله، ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلا .
(واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق , وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون). .
فلما توهموا عدم الرجعة إلى الله استكبروا في الأرض بغير الحق , وكذبوا بالآيات والنذر [ التي جاء ذكرها في مطلع هذه الحلقة، ووردت بالتفصيل في سور أخرى ] .
(فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم).
هكذا في اختصار حاسم . أخذ شديد ونبذ في اليم . نبذ كما تقذف الحصاة أو كما يرمى بالحجر . اليم الذي ألقي في مثله موسى الطفل الرضيع , فكان مأمنا وملجأ . وهو ذاته الذي ينبذ فيه فرعون الجبار وجنوده فإذا هو مخافة ومهلكة . فالأمن إنما يكون في جناب الله , والمخافة إنما تكون في البعد عن ذلك الجناب . (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين). .
فهي عاقبة مشهودة معروضة للعالمين . وفيها عبرة للمعتبرين , ونذير للمكذبين . وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر , وفي أقل من نصف سطر !]
تأملوا هذا الترتيب والتعقيب والسرعة (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ)، (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ). إنها عاقبة البغي والعدوان، (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا).
وانظروا في قوله: (فَنَبَذْنَاهُمْ)، ففيها من المهانة والإهانة للظالمين ما فيها. !!
والنبذ فى اللغة يعنى: (طرحك الشيء من يدك أو وراءك)، ونبذت الشيء: (إذا رميته وأبعدته).
فهذا المنبوذ كان يوماً يقول – متباهياً – وسط قومه وبين حاشيته، (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). ووقف متكبراً متعالياً فى ملأ من قومه يقول: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي). وواصل جبروته وفرعنته وعلوه أن نادى قومه وحشرهم، وقال لهم: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ).
ها هو – الطاغية المتكبر – تُصوره الآية مأخوذاً منبوذاً هو وجنوده !!. فأين ملكوته؟! .. وأين جبروته؟! .. وأين جنوده وحاشيته؟!.
إنها سنة الله في الأولين، التي لا تتبدل ولا تتحول في الآخرين، الذين يظلمون الناس، ويستكبرون في الأرض، ويمكرون بالعباد المكر السيئ، (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)) فاطر.
قال محمد بن كعب القرظي: «ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به من مكر أو بغي أو نكث، وتصديقها في كتاب الله: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) فاطر 43. (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم) يونس 23، (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ) الفتح 10.» .
ويعلق الإمام الطبرى في تفسيره على قوله تعالى: (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)، فيقول: «فانظر يا محمد بعين قلبك: كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بربهم، وردّوا على رسوله نصيحته، ألم نهلكهم فَنُوَرِّثُ ديارهم وأموالهم أولياءنا، ونخوّلهم ما كان لهم من جنات وعيون وكنوز، ومقام كريم، بعد أن كانوا مستضعفين، تقتل أبناؤهم، وتُستحيا نساؤهم، فإنا كذلك بك وبمن آمن بك وصدّقك فاعلون مخوّلوك وإياهم ديار من كذّبك، وردّ عليك ما أتيتهم به من الحقّ وأموالهم، ومهلكوهم قتلا بالسيف، سنة الله في الذين خلوا من قبل».
كن مع ربك :
مطلوب منا أن نعيش مرتبطين بالله ندور مع كتابه وشرعه نتسلح بالأسباب عبادة لله؛ فلقد تحرك سيدنا موسى ومن معه، ومع يقينه أن ما بيده عصا لا تحدث فارقا في المعركة المادية إلا آنه ضرب بها البحر امتثالا لأمر الله فكانت سببا للنجاة وهلاك الظالمين؛ فليضرب كل منا بجميع ما يملك من طاقته وأسبابه واثقا بوعد الله ويقينا يتحقق للإيمان وأهله العزة والنصر.