ونواصل الحديث عن الاستيعاب الداخلي ( أي داخل الصف ) والجزء الثاني من المرحلة الأولى: الاستيعاب العقائدي التربوي

قواعد أساسية من السنة :

فيما يلي نستكمل عرض عدد من القواعد التي بينتها السنة النبوية الشريفة في نطاق التكوين والتي من شأنها بناء الفرد بناء سليماً لا تفريط فيه ولا إفراط ..

4- السنة وتغليب الأولوية في التكوين

ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في التكوين تغليب الأولوية وتقديم الأهم على المهم ..

فالأخلاق الكريمة يجب أن تكون محصلة العبادة، والعبادة الحسنة يجب أن تأتي نتيجة العقيدة الصحيحة .. وهكذا يجب أن تبنى الأعمال على قواعد وأصول وفق سلم الأولويات ..

أما التكوين الذي لا يلتزم بسلم الأولويات فهو تكوين كيفي مزاجي هش، لا يقوم على قواعد راسخة ولا ينهض على أسس قوية متينة ولذلك يبقى عرضة للتداعي والتساقط وريشة في مهب الريح وهذا هو الفاصل الجذري والفارق الأساسي بين الأخلاق في مفهوم الفلسفات المادية المبينة على المصلحة ..

من هنا كان النهج النبوي في تكوين الفرد يعتمد على بناء العقيدة أولاً وقبل كل شيء، بل إن هذا النهج جاء ترجمة عملية لسياق التنزيل القرآني ومراحله وآفاقه ..

فالقرآن الكريم كان يركز بشكل دائم مستمر على بناء العقيدة طيلة العهد المكي الذي استمر ما يقرب من ثلاثة عشر عاماً لتكون بعد ذلك سائر الفروع الأخرى من عبادات            و توجيهات تشريعات مبنية على قاعدة عقائدية صلبة وأسس مبدئية راسخة ...

ومن خلال استعراضنا لسياق الآيات القرآنية التكليفية يبدو ترتيب الآيات واضحاً وثابتاً ومستمراً .. من ذلك قوله تعالى :

-{ والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } العصر 1-3 .

- {وبشر  الذين آمنوا وعملوا الصالحات } البقرة 25 .

- { والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } البقرة 82 .

- { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } البقرة 277 .

- { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم } المائدة 9 .

-{ وإذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } المائدة 93 .

- { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلْكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۦنَ وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَٰهَدُواْ ۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ ۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } البقرة 177 .

وهكذا تتكاثر الآيات مؤكدة ترتيب الأولويات التكليفية حسب الأهمية ..

تأتى بعد ذلك السنة النبوية الشريفة لتترجم هذه القاعدة من خلال السلوك النبوي في الجانب التكويني :

-قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ؟ فقال ((العلم بالله عز وجل )).

-روى : أن رجلاً جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : علمني من غرائب العلم فقال له : ما صنعت في رأس العلم ؟ فقال وما رأس العلم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هلا عرفت الرب تعالى ؟ قال : نعم قال : فما صنعت في حقه ؟ قال : ما شاء الله قال صلى الله عليه وسلم هل عرفت الموت ؟ قال : نعم قال : فما أعددت له ؟ قال : ما شاء الله قال النبي صلى الله عليه وسلم اذهب فأحكم ما هنالك ثم تعالى نعلمك من غرائب العلم )) رواه أبو نعيم وابن عبد البر .

وقال صلى الله عليه وسلم : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم وهذا القول ترجمة عملية لقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دن ذلك لمن يشاء } النساء 48- 116 .

من كل ذلك يتضح أن عملية التكوين يجب أن لا تكون كيفية غير مبينة على أسس أو مقيدة بمراحل وأوليات لأنها إن كانت كذلك فهي مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومكتوب عليها الفشل من أول الطريق .. ما مظاهر التشوه في الشخصية الإسلامية المعاصرة إلا إحدى نتائج الخلل في اتباع السنة في أولويات التكوين ..

5- التكوين من خلال القدرة

والسنة النبوية الشريفة حضت على أن يكون التكوين بالقدوة معتبرة أن لسان الحال أوقع من لسان المقال وأن أثر العمل أقوى من أثر القول وصدق الله تعالى حيث يقول { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } ويقول { يا أيها الذين آمنوا لم تقولوا مالا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون } .

ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى والأسوة الحسنة للمسلمين في كل زمان ومكان ولقد كان صلوات الله وسلامة عليه الترجمة العملية للقرآن الكريم وعندما سئلت عائشة رضى الله عنها عن خلق الرسول قالت :((كان خلقه القرآن )).

ولقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أثر القدوة في كثير من توجيهاته وأنها دليل الأمان وثمرته .. وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم :

.((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل )) رواه الديلمى في مسند الفردوس .

- ((ما آمن بالقرآن من استحل محارمه )) رواه الترميذى .

-(( ما من عبد يخطب خطبة إلا الله عز وجل سائله عنها )) رواه البيهقى .

- ((مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضئ على الناس وتحرق نفسها)) رواه البزار .

- (( كل بنيان وبال على صاحبه إلا ما كان هكذا وأشار بكفه وكل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به )) رواه الطبرانى

- ((إن الرجل لا يكون مؤمناً حتى يكون قلبه مع لسانه سواء ويكون لسانه مع قلبه سواء ولا يخالف قوله عمله ويأمن جاره بوائقه )) رواه الاصبهانى .

وأود أن أسوق هنا قولاً لعلي بن أبي طالب في فضل القدوة وأهميتها يقول على رضي الله عنه: (( من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتهذيب نفسه قبل تهذيب غيره وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم )).

منقول بتصرف من كتاب "الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية " للدكتور فتحي يكن رحمه الله .