إن المتأمل في آيات سورة يوسف، يجد أن من بين ما أظهرته من شمائل نبي الله يوسف بن يعقوب – عليهما السلام -، أنه كان من المحسنين، محسناً في محنته وسجنه، محسناً في سلطانه وتمكينه، محسناً مع من أحسن إليه، محسناً مع من أساء إليه، محسناً في ضعفه وقلة حيلته، محسناً في قوته وقدرته.

من هنا تستطيع أن تقول فيه – عليه السلام – أنه كان صاحب قلب يفيض بالإحسان، محسنا لا يرى إلا الإحسان، أخا وصاحبا لا يراه إخوانه وأصحابه إلا محسناً. إنه سيدنا يوسف بن يعقوب بن اسحق، (عليهم جميعاً السلام).

1- أول مواقف الإحسان: ما ورد في قوله تعالى: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)). لاحظوا (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، لقد رأوا بأم أعينهم ولمسوا بأنفسهم إحسانه إليهم وتخفيفه عليهم ألم السجن وعذابات الوحدة؛ لذلك ذهبوا إليه يستفتونه في أمر رؤياهم، وهكذا يجب أن يكون حال كل الدعاة والمصلحين، أن يرى الناس فعالهم الحسنة وأحوالهم الطيبة وأخلاقهم الكريمة، نعم يرون أفعالهم قبل أقوالهم، وأحوالهم قبل كلامهم، إنها القدوة العملية في الدعوة إلى الله، التى جاءت (الحكمة) فيها قبل (الموعظة الحسنة).

ومن أبلغ مما ذكر في إحسان سيدنا يوسف في هذا الموقف مع صاحبي السجن ما ذكره قتادة والضحاك – رحمة الله عليها -، فقد قال قتادة في قوله: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، : «بلغنا أن إحسانه؛ أنه كان يداوي مريضهم، ويعزِّي حزينهم، ويجتهد لربه. وقال: لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قومًا قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم , فطال حزنهم، فجعل يقول: أبشروا واصبروا تؤجَروا، إن لهذا أجرًا، إن لهذا ثوابًا. فقالوا: يا فتى، بارك الله فيك، ما أحسن وجهك، وأحسن خلقك، لقد بورك لنا في جوارك ، ما نحبُّ أنَّا كنا في غير هذا منذ حبسنا، لما تخبرنا من الأجر والكفَّارة والطَّهارة، فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف، ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله. وكانت عليه محبَّة. وقال له عامل السجن: يا فتى، والله لو استطعت لخلَّيت سبيلك، ولكن سأحسن جِوارك، وأحسن إسارك، فكن في أيِّ بيوت السجن شئت.»

وقد سأل رجل الضحاك عن قوله: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ما كان إحسانه؟ قال: «كان إذا مرض إنسان في السجن قامَ عليه، وإذا احتاج جمع له، وإذا ضاق عليه المكان وسَّع له.»

2- الموقف الثاني في الإحسان: ما ورد في قول الله تعالى على لسان إخوة يوسف: (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)) . أيضاً يقولون له (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، إنها حالة مستمرة من الإحسان يراه غيره عليها، سواء وهو سجين أو وهو عزيز أمين على خزائن الأرض. يقول الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية: «إنا نراك من المحسنين يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم، ويحتمل أن يريدوا: إنا نرى لك إحساناً علينا في هذه اليد إن أسديتها إلينا؛ وهذا تأويل ابن إسحاق.»، وفي كلا الاحتمالين فهو – عليه السلام – محسن يرجى منه الإحسان.

3- الموقف الثالث في الإحسان: نظرته إلى إحسان سيده العزيز له حينما راودته امرأة العزيز عن نفسها وغلقت الأواب وقالت هيت لك، فقال: (مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)). وهو ما أجمع عليه المفسرون، أنه سيدي الذي أحسن منـزلتي، وأكرمني وائتمنني، فلا أخونه في أهله أبداً. حتى في هذه الفتنة مع امرأة العزيز لم ينس إحسان زوجها له، ولعل ذلك كان من أسباب ثباته في هذا البلاء العظيم. إنه القلب الذى لا ينسى الإحسان والعين التى لا ترى إلا الإحسان.

4- الموقف الرابع في الإحسان: استشعاره الدائم لإحسان الله سبحانه له، وإقراره بفضل الله ورحمته عليه طوال حياته، وهو ما وضحته الآية الكريمة وهو يخاطب أباه حين قدموا إليه في مصر قائلاً: (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100))

المرء يتساءل عن سر إحسان سيدنا يوسف – عليه السلام – في كل أحوال حياته، فمن صغره لم ير من الحياة إلا وجهها القاسي! من ظلمات الجب وفتنة النساء وغياهب السجن، كيف ظل سيدنا يوسف محسنًا في كل هذه الظروف الصعبة التي مر بها؟!

لعلنا نجد الإجابة في الآية رقم (100) في سورة يوسف، فى ختام قصته ونهاية رحلته (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي)، إنه سر الإحسان التى تربي عليه وعاش به طوال حياته وفي كل مواقفه، فهو لم يرَ في كل هذه الابتلاءات إلا إحسان الله إليه ولطفه به !!

لم يتساءل لماذا دخلت السجن وأنا مظلوم، بل قال (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ)

ولم يتساءل لماذا يفعل بي إخوتي هذا، بل قال (وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي). يا الله على روعة الحديث وحسن البيان النابع من الإحسان

في كل ابتلاء يمر به لا يرى إلا إحسان الله إليه، قلب كهذا، ويرى لطف الله به في كل تفاصيل حياته، ويستشعر كرم الله وفضله واحسانه إليه في قلب كل محنة يمر بها، إن قلباً بهذا القدر من النقاء والصفاء والسلامة من الطبيعي أن يكون قلبًا شاكرًا ممتلئًا بنور الإحسان وضياء اليقين، قلباً يفيض بالإحسان على من حوله.

وفي ختام السورة تتجلى أروع صور الاتصال بالله، الدالة على الشعور بإحسان الله إليه، وكمال فضله عليه، فيلهج لسانه الشاكر الراضي قائلاً: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)). ما أروعها من خاتمة، وما أجملها من مناجاة.

إنه إحسان الله إلينا أيها الأحبة، الذى يجب أن نستشعره دائماً، فكلنا نحيا في فضل من الله وإحسان، غارقون في آلاءه، لا نستطيع إحصاء نعمه، لو كنا نتدبر.. فاللهم لك الحمد ولك الشكرعلى نعمائك وجميل إحسانك إلينا.