سمية الغنوشي

"هو أنا اديتكم وعود جميلة؟".. هكذا سعى السيسي للتنصل من سجله المروّع.. على رؤوس الأشهاد وأمام الكاميرات، أعلن بصفاقة منقطعة النظير: "حتى أصدقاء مصر أصبحت لديهم قناعة أن مشاكلها غير قابلة للحل!".. يقصد بذلك أن داعميه الخليجيين أنفسهم، الذين ضخوا أموالا طائلة لتثبيت انقلابه، رعبا من شبح ثورة 25 يناير، قد أدركوا أن ما دفعوه قد ذهب هباء، وتوزع بين مشاريع وهمية لا مردودية لها وبين جيوب السيسي وضباطه.

جمعت عشرية السيسي الانقلابية كل خيوط الفشل: قمعا سياسيا وانهيارا اقتصاديا وتفككا مجتمعيا. قايض الناس بالحرية ووعدهم بالازدهار، مقابل الاستبداد "ما تسمعوش كلام حد غيري.. واصبروا، اصبروا وحتشوفوا مصر".. فإذا بهم يخسرون كل شيء ويعودون بخفي حنين: لا حرية ولا تنمية ولا رفاه.

طالب السيسي شعبه بالتقشف والصبر، متباهيا بمشاريعه العملاقة التي ستدخل مصر في مصاف الدول المتقدمة.. توسعة لقناة السويس، جسور وقصور وإقامات، وعاصمة إدارية جديدة، تبين أنها في نهاية المطاف مجرد قنوات لضخ الأموال للهيئة الهندسية التي يديرها الجيش. إنجازات وهمية ملأت جيوب الألوية وكبار الضباط المقاولين وأفرغت خزينة الدولة وجيوب المصريين.

فشل اقتصادي ومالي موسّع وتجويع ممنهج، وارتفاع هائل في الأسعار، وتراجع في السياحة والاستثمار الداخلي والخارجي، ونضوب لموارد الدولة، ومديونية غير مسبوقة في تاريخ مصر.

قبل الانقلاب، كان دين مصر الخارجي 34.4 مليار دولار، وها هو اليوم يتجاوز مستوى الـ158 مليار دولار، ويُتوقع أن يصل إلى 166 مليار دولار العام المقبل، أي بزيادة تفوق 120.8 مليار دولار في عقد واحد. تكلفة خدمة هذا الدين وحدها تبلغ 43.6 مليار دولار.

خلال حكم محمد مرسي وصل معدل الجنيه مقابل الدولار إلى ستة جنيهات، فقامت الدنيا ولم تقعد، وها هو الدولار يصل اليوم إلى 24 جنيها، ويحث الجنيه الخطى نحو سقوط حر لا قاع له.

وأمام الإفلاس المحقق لم يجد السيسي من سبيل غير التسوّل وبيع البلاد. الإمارات اشترت 25 في المئة من مجمل أسهم البنك التجاري الدولي، أكبر بنوك مصر، وتكرر الأمر مع مصنع أسمدة أبو قير، أكثر الشركات ربحا في البلاد، وكذلك شركة فوري، الرائدة في تقديم الخدمات المالية الإلكترونية للمواطنين والشركات. لم يكفه التفريط في الجُزر للسعودية ومياه النيل لإثيوبيا ونهب خزينة البلد ورهنها بالديون، فانكب على أصول البلاد يبيعها بثمن بخس لحلفائه.

مشهد مخيف يذكر بإفلاس مصر في عهد الخديوي إسماعيل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، الذي فتح الباب على مصراعيه للاحتلال البريطاني بعد ضرب الثورة العرابية.

انهيار كامل على جميع الواجهات، من الصحة والتعليم إلى الخدمات والنقل ومعيشة المواطن، وحيثما قلبت ناظريك لا ترى غير علامات الانهيار.

يتوقع الخبراء أن يصل عدد الفقراء في مصر العام المقبل إلى 75 مليونا، منهم نحو 40 مليونا تحت خط الفقر و7 ملايين تحت خط الفقر المدقع.

هذا ما يحدث عندما يدير العساكر دفة الدولة، يفسدون السياسة والاقتصاد والثقافة وكل ما طالته أيديهم.. معاول لا تحسن غير الهدم والتقويض.

ما يحدث في مصر سقوط مدو لنموذج روج له أنصار الانقلابات على مدى السنوات الماضية باعتباره مفتاح الخلاص للعالم العربي. أجهزوا على الثورات في المهد بقوة الجيوش والمؤامرات، والتحريض الإعلامي لتشويه الوعي الجمعي، ثم طفقوا يبشرون بعقيدة النجاح الاقتصادي والتنموي من دون حرية وديمقراطية، حتى تبددت الأوهام وسقطت سردية الخلاص الكاذب.

صحيح أن ثورات الربيع العربي لم تنجح في حل مشاكل الناس، والتقت عليها كل قوى الشر، في الداخل والخارج، وسُخّر المال وأبواق التضليل لشيطنتها وتطويقها، قبل أن تتحرك دبابة العسكر لتدوسها وتجهز عليها، لكنّ سجل الثورة المضادة كان الأسوأ بكل المقاييس. كتمت أنفاس الناس وخنقت أصواتهم، سلبتهم حقوقهم وحرياتهم ثم جوعتهم وعرتهم.

ساذج أو كاذب من يزعم أن ما يقاسيه العالم العربي من أزمات سياسية وصراعات ومهددات بالإفلاس مرده الثورات العربية. أسّ البلاء هي الثورات المضادة، التي لوثت الأجواء وفجرت كل الصراعات والتناقضات، وصنعت الانقلابات والحروب الأهلية، كي تئد حلم الشباب العربي في التغيير والحرية والكرامة. فلو تُركت هذه الثورات في سبيلها لقطعت أشواطا مهمة على درب إرساء نظم عادلة حرة، وتحسين أحوال الناس ومعاشهم.

أثبتت الأيام أن نموذج السيسي تجسيد مكثف للرداءة والفشل، رغم كل مساعي التزييف والتلبيس، مثال بشع ليس فيه ما يستلهمه العرب ولا ما يستنسخونه، فحري بهم إذن أن ينفضوا أيديهم منه ويسارعوا إلى قبره.