تأملت في هذا القول البليغ الموجز (كلُ ما دونَ الجَنَّة دُونّ)، فوجدته حقيقة دامغة، يوقن بها أصحاب القلوب الحيّة والنفوس القويّة والعقول الواعية، الذين يعيشون في هذه الحياة وقلوبهم مُعلقة بالآخرة.

مقاييسهم ربانية، وحساباتهم إيمانية، يدركون حقيقة الدنيا الفانية والآخرة الباقية، يعملون في الدنيا ويكدّون أملًا فى راحة الآخرة. فهذا الإمام أحمد بن حنبل – رضي الله عنه – يُسأل: «متى يجد العبد طعم الراحة؟»، قال: «عند أول قدم يضعها في الجنة».

وهذا مسروق – أحد علماء السلف – ينام ساجدًا، فقال له أصحابه: «لو أرحت نفسك»، قال لهم: «راحتها أريد».

وبالتالى لا تراهم يحملون همّ الدنيا، فهم يعرفون حقيقتها، إنما يشغلهم ويسيطر عليهم همّ الدعوة، وهمّ الفوز والنجاة في الآخرة. ولنسمع للشيخ عبد القادر الجيلاني وهو يثبت هذا المعني عند غلامه ومريده حين نصحه قائلًا: «يا غلام! لايكن همك ما تأكل، وما تشرب، وما تلبس، وما تنكح، وما تسكن، وما تجمع، كل هذا: هم النفس والطبع، فأين هم القلب؟ همك ما أهمك، فليكن همك ربك – عز وجل – وما عنده».

وتراهم لا يحملون همّ الرزق لأنهم يوقنون أنه مُقدّر، وهو في السماء (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)) الذاريات، يعملون ويبذلون من أجل الرزق لكنهم يوقنون أنه مقسوم، ويوقنون كذلك أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، وبالتالي تراه في أيديهم لا في قلوبهم، يملكونه ولا يملكهم، والغِنى في نظرهم ليس غِنى المال والجاه، ولكنه غنى الخُلق والنفس. ورحم الله الفضيل بن عياض حين قال: «إنما الفقر والغنى بعد العرض على الله».

حالهم مع الهمّ والحَزَن

أصحاب الهمم العالية والغايات السامية، الذين يعيشون في هذه الحياة عيش الآخرة، لا يسيطر عليهم همّ الدنيا الفانية، ولا يقعدهم عن العمل والجد من أجل الآخرة الباقية، يقتدون في ذلك برسوله ﷺ الذى كان يستعيذ من الهم والحزن، كما أخبر عنه أنس بن مالك – رضي الله عنه. (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ).

والهمّ: المكروه المؤلم على القلب على أمر مستقبل يتوقعه. أما الحزن: المكروه المؤلم على القلب على أمر قد مضى.

وقد استعاذ منهما ﷺ لما فيهما من شدة الضرر على البدن، وإذابة قواه، وتشويش الفكر والعقل، والانشغال بهما يفوِّتان على العبد الكثير من الخير، وانشغال الفؤاد والنفس عن الطاعات والواجبات، هذا إن كان الهمّ والحزن في أمور الدنيا، أما همّ الآخرة، فهو محمود؛ لأنه يزيد في الطاعة، ويبعث النفس على الجدّ، والعمل، والمراقبة، قال النبي ﷺ: (مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا: هَمَّ الْمَعَادِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ في أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهِ هَلَكَ). رواه بن ماجة والحاكم والبزار.

وقال ﷺ: (مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ). رواه الترمذي.

ليكن نظرك للسماء أطول من نظرك للأرض

سـأل رجل مهموم حكيم: أيها الحكيم لقد أتيتك وما لي حيلة مما أنا فيه من الهمّ؟

فقال الحكيم: سأسألك سؤالين وأُريد إجابتهما.

فقال الرجل: اسأل

فقال الحكيم: أجئت إلى هذه الدنيا ومعك تلك الهموم؟

قال: لا

فقال الحكيم: هل إذا فارقت الحياة وغادرت دنياك ستأخذ معك هذه الهموم؟

قال: لا

فقال الحكيم: أمرِ لم تأتِ به، ولن يذهب معك. الأجدر ألا يأخذ منك كل هذا الهمّ فكن صبورًا على أمر الدنيـــآ. وليكن نظـرك إلى السماء أطول من نظرك إلى الأرض، يكن لك ما أردت.

يُروى أن الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – وجد رجلاً مهموماً حزيناً، فسأله الشيخ: ما بك؟ فأجاب الرجل: همُّ أصابني. فسأله الشيخ متعجباً: أضاعت الجنّة أم أُخبرت بعدم القبول؟! هوّن عليك يا صديقي، فكل ما دونَ الجنّة دُونّ.