تلتقي مناهج التربية الأرضية على أن هدف التربية هو إعداد (المواطن الصالح)، وتختلف الأمم بعد ذلك في تصوُّر هذا المواطن وتحديد صفاته؛ فقد يكون هو الجندي الشاكي السلاح، المتأهِّب في كل لحظة للوثوب؛ سواء للعدوان، أو لرد العدوان، وقد يكون هو الرجل الطيب المسالم الذي لا يحب الاعتداءَ على أحد، ولا اعتداء أحد عليه، وقد يكون هو الناسك المتعبِّد الذي يَهجُر الحياة الدنيا، وينصرف عن صراع الأرض الكرِيه، وقد يكون هو العاشق لوطنه، المجنون بعُنصريَّته، وقد يكون، وقد يكون، ولكنها تشترك كلها في شيء واحد: في إعداد (المواطن الصالح).

أما الإسلام، فلا يَحصر نفسه في تلك الحدود الضيِّقة، ولا يسعى لإعداد (المواطن الصالح)؛ وإنما يسعى لتحقيق هدفٍ أكبرَ وأشملَ، هو إعداد (الإنسان الصالح)؛ الإنسان على إطلاقه بمعناه الإسلامي الشامل، الإنسان بجوهره الكامن في أعماقه، الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث هو (مواطن) في هذه البقعة من الأرض، أو في ذلك المكان، وذلك معنى أشمل ولا شكَّ من كل مفهوم للتربية عند غير المسلمين [1].

وقد كان تكوين هذا الإنسان الصالح محورَ تربية النبي ﷺ وهدف دعوته، الإنسان الرجل متمثلاً بأبي بكر الصديق – رضي الله عنه – والإنسان المرأة متمثلاً بسيدتنا خديجة أمِّ المؤمنين زوجة النبي ﷺ والإنسان الفتى متمثلاً بسيدنا علي – رضي الله عنه – والإنسان العبد متمثلاً بسيدنا بلال – رضي الله عنه – والإنسان الغني متمثلاً بعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما، والإنسان الشاب المُرفَّه متمثلاً بمصعب بن عمير – رضي الله عنه – والإنسان الفقير متمثلاً بعمار بن ياسر وعبدالله بن مسعود – رضي الله عنهما -، والكثير ممن استجابوا للدعوة الإسلامية.

فالدعوة الإسلامية توجَّهت إلى الإنسان، الذي حمَّله الله مسؤولية إقامة العدل والخير، ونُصرة الحق، ونشر الهدى [2].

وعلى هذا النهج صار الدعاة والمصلحون، ومنهم الإمام البنا – رحمه الله – الذي جدَّد الله على يديه هذا الدين، فنرى أن الهدف من التربية عند الإمام البنا: هو تكوين هذا الإنسان الصالح، سائرًا بذلك على هدْي نبيِّه محمد ﷺ نرى ذلك من خلال استقراء ما كتبَه الإمام البنا في رسائله ومذكراته ومقالاته.

الإنسان الصالح هدف التربية عند الإمام البنا، ويظهر ذلك من خلال توجيهات الإمام حسن البنا – رحمه الله.

ففي رسالة إلى الشباب، يقول الإمام البنا: أيها الشباب، إن منهاج الإخوان المسلمين محدود المراحل، واضح الخُطوات، فنحن نعلم تمامًا ماذا نريد، ونعرف الوسيلة إلى تحقيق هذه الإرادة، نريد أولاً الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خُلقه وعاطفته، وفي عمله وتصرُّفه، فهذا هو تكويننا الفردي [3].

 وفي رسالة دعوتنا في طور جديد، يقول البنا: وهذا الشعور القوي الذي يجب أن تَفيض به النفوس، وهذه اليقظة الرُّوحية التي ندعو الناس إليها، لا بد أن يكون لها أثرها العملي في حياتهم، ولا بد أن تَسبقها ولا شكَّ نهضة عملية تتناوَل الأفراد والأُسر والمجتمعات، وستعمل هذه اليقظة عملَها في الفرد، فإذا به نموذج قائم لما يريده الإسلام في الأفراد.

إن الإسلام يريد في الفرد وجدانًا شاعرًا يتذوَّق الجمال والقُبح، وإدراكًا صحيحًا يتصوَّر الصواب والخطأ، وإرادة حازمة لا تَضعُف ولا تلين أمام الحق، وجسمًا سليمًا يقوم بأعباء الواجبات الإنسانية حقَّ القيام، ويُصبح أداة صالحة لتحقيق الإرادة الصالحة، ويَنصُر الحق والخير [4].

وفي رسالة التعاليم، يقول البنا: ومن مراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق: إصلاح نفسه؛ حتى يكون قويَّ الجسم، متينَ الخلق، مثقَّف الفكر، قادرًا على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدًا لنفسه، حريصًا على وقته، مُنظمًا في شؤونه، نافعًا لغيره، وذلك واجب كلِّ أخ على حِدَته [5].

هكذا نرى أن الفرد المسلم الصالح هو هدف التربية عند الإمام البنا – رحمه الله.

* وسائل تربية الإنسان الصالح عند الإمام البنا:

حدَّد الإمام البنا وسائل لتربية الإنسان الصالح، ومحاضن يستطيع هذا الإنسان من خلالها تنمية قدراته المختلفة، ومن هذه الوسائل:

1- الأسرة: يقول الإمام البنا عن الأسرة:

«يحرص الإسلام على تكوين أُسر من أهله يوجِّههم إلى المُثل العليا، ويقوِّي روابطهم، ويرفع أُخوَّتهم من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الأفعال والعمليات، فاحرص يا أخي أن تكون لَبنة صالحة في هذا البناء (الإسلام)».

وفى تحديدٍ أكثرَ توضيحًا يتحدَّث الإمام البنا – عليه رحمة الله – عن نظام الأُسر، فيقول: «هذا النظام أيها الإخوان نافع لنا، ومفيد كل الفائدة للدعوة بحول الله وقوَّته، فهو سيحصر الإخوان الخُلصاء، وسيجعل من السهل الاتصال بهم، وتوجيههم إلى المُثل العليا للدعوة، وسيقوِّي رابطتهم، ويرفع أُخوَّتهم من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الأفعال والعمليات، كما 

حدث فعلاً في بعض الأُسر التي أُصيب فيها بعض أعضائها، وسينتج بعد قليل رأس مال للإخوان من لا شيء، فاحرصوا أيها الإخوان على أن ينجح هذا النظام في محيطكم، والله يتولاَّكم”، ثم يقول بعد تحديد واجبات نظام الأُسر: “فإذا أدَّيتم هذه الواجبات الفردية والاجتماعية والمالية، فإن أركان هذا النظام ستُحقَّق بلا شك، وإذا قصَّرتم فيها، فسيتضاءل حتى يموت، وفى موته أكبرُ خسارة لهذه الدعوة، وهي اليوم أمل الإسلام والمسلمين»[6].

2- الكتيبة:

تستهدف الكتيبة كوسيلة من وسائل التربية، أن تُحدِثَ تكاملاً في بناء الشخصية الإسلامية للفرد، بطبْعه بطابع التقرُّب إلى الله بطاعته، وبطابع الجهاد الذي يبدأ بجهاد النفس والهوى والدعة والراحة؛ ليؤهِّله هذا وذاك لحمْل أعباء الدعوة إلى الله، والعمل للإسلام في ظل ظروف سياسية واقتصادية، وثقافية واجتماعية، ضاغطة على الإسلام تريد إخماده، ومعادية له تُريد القضاء عليه وعلى المتمسكين به، ومواجهة هذه الضغوط وتلك التيارات تحتاج إلى مؤمنين صادقين، يستأهلون أن ينزل عليهم نصر الله؛ قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47].

3- الرحلة:

هي وسيلة تربوية كذلك متمِّمة للوسائل التي اتَّخذها الإمام البنا في تربية الأفراد، ولكنها كالكتيبة تغلب عليها التربية الجماعية، وفيها يُتاح للمشاركين حرية في الحركة والتريُّض، والتدريب والصبر على بذْل الجهد، وتحمُّل الجوع والعطش، بمقدار لا تَسمح به ظروف لقاء الأسرة، ولا ظروف لقاء الكتيبة، وإذا كانت الأسرة والكتيبة يُعنى فيهما بإنضاج الجوانب الروحية والعقلية، والنفسية والاجتماعية، بأكثر مما يُعنى بالجانب البدني الجسدي في الفرد أو المجموعة، فإن الرحلة هي التي يُعنى فيها بهذا الجانب البدني الجسدي أكثر من غيرها من وسائل التربية الإخوانية.

4- المخيم أو المعسكر:

تتَّسع أهداف المعسكر (المخيم) عن أهداف الأسرة والكتيبة والرحلة، ونستطيع أن نُجمل هذه الأهداف في أصول ثلاثة، يتفرَّع عن كلِّ أصلٍ منها فروع.

هذه الأصول الثلاثة هي: التجميع، والتربية، والتدريب.

5- الدورة:

وتَعني: جمْع عددٍ غير قليل من الإخوان في مكان خاص؛ لتلقِّي أنواع من المحاضرات والمدارسات، والبحوث والتدريبات، حول موضوع معيَّن من الموضوعات التي يهتمُّ بها العمل الإسلامي.

وهي من وسائل التربية التي استعان بها الإمام البنا، بقصْد تكثيف بعض المعلومات أو التدريبات، التي يكون الإخوان – أفرادًا أو قيادات – بحاجة إليها لصالح العمل الإسلامي، أو لصالح الدعوة والجماعة.

6- الندوة:

هي: اجتماع يتكون من عدد محدود من الخُبراء والمختصين؛ للإسهام في دراسة موضوع أو مشكلة؛ بحيث يعطي كلُّ واحد منهم رأيه، داعمًا إياه بما يستطيع من أدلة وبراهين.

وقد عرَفت جماعة الإخوان المسلمين الندوات بهذا المعنى الحديث المعاصر، ومارَستها سنوات طويلة في الشُّعَب والمناطق، وفي بعض الأحيان في المركز العام، وكانت الجماعة تستضيف لهذه الندوات العلماء والخُبراء والمتخصِّصين؛ ليدرسوا قضيَّة بعينها.

7- المؤتمر:

يصف الإمام البنا المؤتمر بقوله: هو يضم عددًا كبيرًا من المشتركين، قد يصل إلى مئات، والاشتراك فيه مُباح لجميع المنظمات والأفراد المختصين، ويُعقد لمدة محدَّدة؛ لتبادُل الرأي في الموضوعات المعروضة عليه، وإصدار توصيات تُنشر على نطاق واسعٍ.

هذه هي وسائل التربية عند الإمام البنا، والتي يتَّضح من خلالها اهتمام البنا بتكوين الإنسان الصالح في جميع جوانبه، ومن خلال كل المواقف التي تؤثِّر فيه ويتأثَّر بها [7].

*سمات التربية الإسلامية عند الإمام البنا:

وللتربية عند الإمام البنا خصائصُ لا نستطيع تكوين الإنسان الصالح إلا من خلالها، والاتِّصافُ بهذه الخصائص ضرورةٌ لتكوين الفرد المسلم القادر على خوْض غمار الحياة بقوَّة وحرية، وثبات واطمئنانٍ، ومن هذه السمات:

1- الربانية:

فالجانب الرباني عند الإمام البنا من أهم جوانب التربية، وأشدها خطرًا، وأعمقها أثرًا؛ وذلك لأن أول هدف للتربية الإسلامية هو تكوين الإنسان المؤمن.

لقد حاول الإمام البنا في تربيته الإيمانية أن يجمع ما فرَّقه المتكلمون والصوفية والفقهاء من عناصر الإيمان الحق، وأن يُجدِّد ما أبلاه المسلمون في الأعصر الأخيرة من معاني الإيمان الحق، فعاد إلى المنابع الصافية من الكتاب العزيز والسُّنة المطهَّرة وإيمان الصحابة، ومَن تبِعهم بإحسان من سلف الأمة، الذي شمِل إيمانهم اعتقاد القلب وإقرار اللسان، وعمل الجوارح [8].

2- التكامل والشمول:

فليست التربية مقصورة عنده عند جانب من الجوانب، فهي لا تضع كل اهتماماتها في الجانب الرُّوحي أو الخلقي، والذي يُعنى به المتصوفة والأخلاقيون، ولا تَقصر كل جهودها على الجانب الفكري، والذي يُعنى به الفلاسفة والمتكلمون، ولا تجعل أكبر همِّها في التدريب والجندية، والتي يُعنى بها العسكريون، ولا تَحصر نشاطها في التربية الاجتماعية، كما يُعنى بها المصلحون الاجتماعيون.

إنها في الواقع تهتم بكل هذه الجوانب، وتحرِص على كل هذه الألوان من التربية؛ وذلك لأنها تربية الإنسان كل الإنسان: عقله وقلبه، رُوحه وبدنه، خُلقه وسلوكه، كما أنها تَعُدُّ الإنسان للحياة بسرَّائها وضرَّائها، سِلمِها وحربها، وتَعُدُّه لمواجهة المجتمع بخيره وشرِّه، وحُلوه ومُرِّه.

3- الإيجابية والبناء:

لقد كان لحسن البنا من اسمه نصيبٌ، فكان حقًّا رجل بناءٍ، لا رجل هدمٍ، ورجل عملٍ لا رجل كلامٍ، ورجل واقعٍ لا رجل خيالٍ، لهذا اتَّجه بطاقته وطاقات الإخوان من حوله إلى الإيجابية والإنتاج، بدل الاشتغال بلَغو القول، ولَهْو الحديث، وعبَث الصِّبيان، والبحث عن عيوب الآخرين، وطُوبى لمن شغَله عيبُه عن عيب الناس.

4- الاعتدال والتوازن:

فلا بد للمسلم أن يتَّصف بالاعتدال والتوازن في كل شيء، فهو يوازِن بين العقل والعاطفة، وبين المادة والرُّوح، وبين النظر والعمل، وبين الشورى والطاعة، وبين الحقوق والواجبات، وبين القديم والجديد، وفي هذا يقول الإمام البنا: «كل أحدٍ يؤخذ من كلامه ويترك، إلا المعصوم ﷺ وكل ما جاء عن السلف – رضوان الله عليهم – موافقًا للكتاب والسُّنة، قبِلناه، وإلا فكتاب الله وسُنة رسوله ﷺ أولى بالاتِّباع،

ولكنَّا لا نعرض للأشخاص – فيما اختُلِف فيه – بطعنٍ أو تجريحٍ، ونَكلهم إلى نيَّاتهم، وقد أفضوا إلى ما قدَّموا».

وهذا هو الاعتدال، كما هو الإنصاف الذي لا يُماري أحدٌ فيه.

ومن دلائل الاعتدال والتوازن في فكر البنا، نظرتُه إلى المجتمع، فهي نظرة وسطية معتدلة، تنظر إلى المجتمع من أُفق رَحْبٍ، ومن زوايا متعددة، وبمنظار سليم لم يَشُبْه الغَبش والقَتام، وكان حسن البنا يربي أتباعه على الاحتراز من خطيئة (التكفير) للمسلمين، وفي هذا يقول في الأصل الثاني من الأصول العشرين:

«لا نكفر مسلمًا أقرَّ بالشهادتين، وعمِل بمقتضاهما، وأدَّى الفرائض – برأي أو معصية، إلا أن أقرَّ بكلمة الكفر، أو أنكَر معلومًا من الدين بالضرورة، أو كذَّب صريح القرآن، أو فسَّره على وجه لا تَحتمله أساليب اللغة العربية بحالٍ، أو عمِل عملاً لا يحتمل تأويلاً إلا الكفر».

هكذا كان منهج البنا في تربية الإنسان الصالح، قائمًا على الوسطية والاعتدال واحترام الآخر [9].

5- الأُخوة والجماعة:

ومن المعاني الذي ربَّى عليها حسن البنا الإخوان: الأخوَّة والمحبة في الله، وقد جعَل الإمام البنا الأخوة أحد أركان البيعة العشرة، وفسَّرها بقوله: أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأعلاها، الأخوة أخت الإيمان، والتفرُّق أخو الكفر، وأقل القوة قوة الوَحدة، ولا وَحدة بغير حبٍّ.

أقل الحب سلامة الصدر، وأعلاها مرتبة الإيثار؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16].

هذه أخي أهم الأُسس الذي قام بها الإمام البنا لقيام الفرد المسلم، أو بتسمية علماء التربية (الإنسان الصالح)، والمتدبر في حياة الإمام البنا وتُراثه، يجد أن الإمام البنا خلَّف ميراثًا نافعًا، يستطيع كل مسلم مهما كان تخصُّصه أن ينتفعَ به، رحِم الله البنا، وأسكنه ربُّه فسيحَ جنَّاته، وجعلنا ممن يَسيرون على خُطى حبيبنا محمد ﷺ.

———————

[1] منهج التربية الإسلامية؛ أ. محمد قطب.

[2] بناء الإنسان: هدف الدعوة والتربية الإسلامية؛ د. محمد توفيق رمضان.

[3] الرسائل؛ أ. حسن البنا.

[4] المرجع السابق.

[5] المرجع السابق.

[6] وسائل التربية عند الإخوان المسلمين؛ د. علي عبدالحليم محمود.

[7] المرجع السابق.

[8]التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا؛ د. يوسف القرضاوي.

[9] المرجع السابق.