بقلم: عبد الصمد الفقي

القدرة على احتواء الآخرين مطلبٌ تكتمل به شخصية صاحب الدعوة، وحاجةٌ من احتياجات الطريق؛ حتى تستطيع الدعوة مواصلة السير واستيعاب الطاقات وتشغيلها، فالطريق طويل، والدعوة التي تُنفِّر الناس منها ولا تعبأ باحتوائهم لن يُكتب لها النجاح، وكيف تنجح وهي منبوذةٌ من الآخرين مكروهة عندهم؟

احتواء الآخرين يعني قدرة صاحب الدعوة (الداعية)على جذب الناس، وضمِّهم إلى سفينة الدعوة، والداعية الناجح هو القادر على الوصول بدعوته وفكرته إلى الناس، والتأثير فيهم، على اختلاف طبائعهم.
وصاحب الدعوة الذي لا يتوافر فيه الحد الأدنى من القدرة على احتواء الآخرين؛ قد لا يكون فقط عاجزًا عن جذب الناس إلى دعوته، بل قد يكون مسيئًا إلى الدعوة، مسبِّبًا لها الحرج، كما أن المقصد الأسمى من احتواء الآخرين عدم استعدائهم للدعوة، وتحييدهم على أسوأ تقدير.

ولن يستطيع أي شخص، مهما كانت قدراته وإمكاناته، الوصول إلى هذه المكانة إلا بامتلاك قلوب الآخرين، وكسب ودهم؛ فكيف نحب الآخرين ونصل إلى قلوبهم كبداية لاحتوائهم واستيعابهم داخل الدعوة؟

كل داعية يتمنَّى أن يحظى بحب الآخرين، ولكن ليس كل ما نتمناه ندركه، ولن نصل إلى تحقيق هذه الأمنية إلا إذا كانت لدينا الرغبة الحقيقية الصادقة في الوصول إلى قلوب الآخرين، ثم أخذنا بالأسباب لتحقيق هذا الهدف.

كيف نكسب ودَّ الآخرين؟

-1 تعرف جيدًا على إخوانك:
"تعرف إلى من تلقاه من إخوانك وإن لم يطلب منك ذلك". تلك الوصية البليغة من الإمام الشهيد حسن البنا ترمي إلى المعايشة، وأن يُصهَر الجميع في بوتقة الأخوَّة والأنس والقرب، ولن يتأتَّى ذلك من أفراد لا يعرفون بعضهم حق المعرفة، وإلا فكيف أتقرَّب إلى إنسان لا أعرف ما يضايقه وما يفرحه؟ ما يسرُّه وما يعكِّر عليه صفوه؟ فذلك بالتأكيد سيساعدنا على عدم الاصطدام بطبائع الآخرين.

-2 لا تفرض نفسك عليهم:
من الأشياء التي تؤدي إلى نفور الأقران بعضهم من بعض، محاولة فرض الآراء الشخصية في بعض الموضوعات التي تمثل خصوصيةً عند صاحبها، أو محاولة التطوع والتطفُّل لمعرفة مشكلة ما وإبداء النصح فيها. عليك إذن أن تتجنَّب مثل هذا التصرف، ولا تتبرَّع بالتدخل في شئون الآخرين الخاصة، وانتظر حتى يُطلب منك ذلك.

-3 لا تُكثر من نقدهم:
النقد الكثير لمن حولنا يتنافى مع الرغبة في كسب ودِّهم، فمن تنقده يضع نفسه في وضع الدفاع، ويحاول بكل ما أُوتي من قوة أن يُثبت لك صوابه وخطأك، فالنقد يصيبهم في كبريائهم بجرح دامٍ، ويؤدي إلى تحرك شعور سلبي تجاه من انتقدهم.

-4 عاملهم بما تُحب أن يُعاملوك به:
الحب يعني العطاء أولًا ثم حصاده ثانيًا، والذي يعامل الآخرين معاملةً سيئةً، أو بكبرياء وعدم تقدير، ثم بعد ذلك ينتظر القرب منهم وحبهم؛ فهو مخطئ لا محالة، ولكي تعرف أهمية تلك النقطة حاول أن تسأل نفسك: هل أغثت ملهوفًا أو أسعفت مصابًا أو يسَّرت على معسر؟ ثم حاول أن تتذكر محنةً صعبةً تعرَّضت لها، واحتجت فيها إلى مساعدة الآخرين، وتذكر شعورك تجاه من وقف معك في تلك المحنة، بالتأكيد فإن مشاعر الحب والود والتقدير تحيط دائمًا بكل من أسدى إلينا معروفًا أو وقف معنا في وقت محنتنا.

 -5 تجنب غيبتهم :
لكل إنسان مزاياه وعيوبه، إيجابياته وسلبياته، فلا يوجد على ظهر الأرض أحدٌ منزَّهٌ عن العيوب، والحديث عن الآخرين بسوء يترك انطباعًا وأثرًا سيئًا تجاهك، ويزعزع الثقة بينك وبينهم، ويجعلهم يتخوفون من أن يأتي يوم تختلف فيه معهم فتذكرهم بسوء، كما ذكرت الآخرين من قبل أمامهم.

-6 التمس لهم الأعذار:
علمنا الرسول ﷺ أن نلتمس لإخواننا الأعذار، ومن السلوكيات التي تساعد الداعية على جذب الآخرين وكسب ودِّهم، والتي تأتي بثمارها التماس الأعذار لهم، وهو ما يبعث مشاعر الود والحب في نفوسهم؛ لأننا التمسنا لهم الأعذار، وتعاملنا معهم من وجهة نظرهم لا من وجهة نظرنا.
ويؤكد (ديل كارنيجي) مؤسس معهد الدراسات الإنسانية: أن التماس الأعذار للآخرين هو ما يريده كل إنسان، وإذا قلت لمحدثك الذي قد يكون أخطأ في حقك عن غير قصد إنك لا تلومه لوقوفه هذا الموقف منك، وإنك لو كنت مكانه لاتخذت مثل الموقف، فإن هذه العبارة كافية لتصفية نفسه نحوك مما قد يكون سببًا في تعكيرها وتشعُّ فيها روح طيبة نحوك.

-7 لا تعبس في وجوههم:
«تبسمك في وجه أخيك صدقة». «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق». هكذا علمنا النبي ﷺ، والعبوس في الوجه سببٌ مباشرٌ في نفور الآخرين واستعدائهم، وإشاعة روح الرهبة والخوف في قلوبهم؛ لذلك على من أراد كسب ودِّ الآخرين وحبِّهم أن يوازن بين همومه الشخصية وملاقاة الآخرين، وألا يجعلها تؤثر في ملاقاتهم، فهناك صنفٌ من البشر يظن أن في هذه التقطيبة المرسومة على وجهه إضفاءً لقوة شخصيته وضرورةً لفرض احترام الآخرين له، والواقع غير ذلك تمامًا.

إن من يريد أن يكسب حب الآخرين، عليه أن يتحلَّى بابتسامة عريضة تملأ وجهه.
وبعد.فإننا لو طبقنا تلك الوسائل ووصلنا إلى قلوب الآخرين، فسوف نحتويهم ونعدُّهم إعدادًا جيدًا كي يكونوا من رجال الفكرة يحملون همَّها ويرفعون لواءها.

كيف تحتوي الدعوة أبناءها؟
أما احتواء الآخرين داخليًّا (داخل الدعوة) فذلك من الأمور التي تحتاج إلى جهد عظيم، واهتمام بليغ، وإلا فما الفائدة من احتواء عامة الناس حتى إذا بلغوا رشدهم واشتدَّ عودهم والتحقوا بالدعوة؛ ران الصدأ على قلوبهم، وأصابهم الكسل والخمول، وتبدَّل حماسهم فتورًا، ونشاطهم خمولًا، وأصبحوا عينًا على الدعوة؟

ذلك أن قدراتهم وإمكاناتهم لم توظَّف ولم تُستثمَر، فالاحتواء الداخلي هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على نشاط هؤلاء حيًّا يقظًا في نفوسهم، والمقصود من احتواء أبناء الدعوة القدرة على المحافظة عليهم داخل الصفِّ، مع توفير المناخ المناسب لاحتضانهم وتنميتهم وإعدادهم إيمانيًّا وحركيًّا، فمرحلة الاحتواء الداخلي بمثابة التجميع والإعداد، كمن يُعنَى ببذرة القطن ويرعاها بالسماد والمبيدات حتى تنضج ويحين وقت اقتطافها، (وذلك كالاحتواء الخارجي).
ثم يتحوَّل ذلك القطن إلى مصانع الغزل والنسيج (الاحتواء الداخلي)، التي توظِّف هذا القطن (المادة الخام) في العديد من الصناعات.

التربية أولًا ودائمًا
وتكمن أهمية احتواء أبناء الدعوة في عظم المشكلات التي تنتج من التقصير في هذا المبدأ، فالذي يرتقي من غير أن يربَّى، أو يرتفع من غير التزام، والذي يتقلَّد المسئوليات من غير أهلية يكون عبئًا على الدعوة وبلاءً عليها في كثير من الأحيان.
يقول الأستاذ فتحي يكن: «أعرف إنسانًا تسلَّق جدار الدعوة دون جدارة، وأصبح داعيةً قبل الأوان، وكان يشكو ويعاني من عللٍ وأمراضٍ شتى. أقلها العُجب، ومنها الصلف والفظاظة، ولما علَت منزلتُه وارتفعت درجتُه وارتفع معها عُجبه وصلفه وفظاظته؛ لم يعد من الممكن السيطرة عليه وضبطه؛ ما أدَّى في النهاية إلى سقوطه وخسارته».

فعملية التربية إن لم تأخذ حقَّها من الوقت وتسخير الإمكانات التي تؤدي إلى نجاحها، فإن الدعوة لن تتمكَّن من تأهيل أبنائها، وستغضُّ الطرف عن أمراضهم وعللهم بحجة الحاجة والضرورة، وسيحدث بلا شك اعوجاجٌ في شخصياتهم قد يؤثر في الصف بأكمله، ومن هنا تكمن أهمية الاحتواء التربوي الذي يعمل على تأهيل الفرد وتحصينه قبل تعرضه لفتنة الحركة وبريقها.

ويضيف الأستاذ فتحي يكن: «وأعرف غيره – يقصد أحد أبناء الحركة الإسلامية – ساعدت الدعوة على قتله، حين دفعته في طريق وعْر قبل أن تعدَّه لسلوكه، ورشَّحته لأمر لم يكن أهلًا له، واختصرت به مراحل قبل الأوان، فلنتصوَّر كيف كانت النتيجة؟».

فالقارئ للأحداث وتاريخ الدعوة يجد بما لا يدع مجالًا للشك أن السبب في كثير مما تعاني منه الدعوة من انقسامات وخلافات، ومن تساقط للبعض في الطريق، ومن بروز لظواهر مرضية؛ هو عدم احتضانهم تربويًّا.

ومن المهم أن نؤكد أنه لا ينبغي أن يبقى أحد من أبناء الدعوة بلا عمل، شريطة أن يستكملوا بناءهم التربوي، فإيجاد عمل معين لكل فرد، مهما كان بسيطًا ومحدودًا، من شأنه أن يضاعف الإنتاج، وأن يجنِّب الدعوة الكثير من المشكلات الناجمة عن البطالة داخل الصف، فالذين ليس لهم دورٌ أو مهمةٌ، يُصبحون نقطةً ضعيفةً يدخل من خلالها البلاء إلى الجسد كله.

فمن الخطأ عند توزيع الأعمال والتكاليف على أبناء الدعوة الاكتفاء بالأفراد الإيجابيين، المعروف عنهم النشاط والحركة الإيجابية؛ لأنهم بالتأكيد أكثر استعدادًا لتنفيذ ما يوكل إليهم من أعمال وترك الأفراد المعروف عنهم الانطواء، أو المتصفين بالسلبية، رغم استكمالهم مراحل الاحتواء التربوي؛ ما يجعل الأمر يتفاقم لديهم، وتزداد سلبياتهم، ويتولَّد لديهم شعور بالنقص، ويزداد تثاقلهم إلى الأرض، وتقلُّ حركتهم، وينقص عطاؤهم.

وكثيرًا ما شاهدنا وتابعنا أنه عندما تغيَّب الأفراد العاملون الإيجابيون عن الأعمال لأسباب السفر، أو لأي أسباب أخرى. ظهر أفراد جدد كانوا بين أيدينا وأمام أعيننا، ولكننا لم نستعن بهم أو نشاركهم في أنشطتنا لظننا عدم كفاءتهم أو أنهم سلبيون اجتماعيًّا، وعندما أوجدتهم الضرورة رأيناهم شعلةً من النشاط وأصحاب حركة دءوبة وعمل مستمر، وظهرت مواهبهم وقدراتهم.

بالإضافة إلى أن العضو الذي يعمل ينمو ويتطوَّر، والذي لم يعمل يضمحل ويموت، فحصر التكاليف على أفراد بعينهم دون الآخرين من شأنه أن يصيب هؤلاء الآخرين بالبلادة واللا مبالاة واللا شعور بالمسئولية، فيصبحوا أُجَرَاء في هذه الدعوة لا شركاء، يعملون وينتجون، بل سيكونون كَلاًّ وعبئًا على الدعوة بأثرها.

وأخيرًا. فإن الاحتواء له شروطه وضوابطه، والتي من دونها لن تكون هناك ثمرة تُجنى، ولعل في مقدمة تلك الشروط استكمال مراحل البناء التربوي؛ حتى يظل هذا البناء قائمًا على أرضية صلبة تتحمَّل عقبات الطريق وتصبر على لأوائه.

——————–

(*) نُشر هذا المقال على الموقع الرسمي: (إخوان اونلاين)، بتاريخ 13 أكتوبر 2009م