بقلم: محمد الغباشي

يتميز الماء -والسوائل بشكل عام- بتمتعه بظاهرة فريدة تعرف بـ(التوتر السطحي للموائع)، ويعرّفها الفيزيائيون بأنها: التأثير الذي يجعل الطبقة السطحيّة لأي سائل تتصرف كورقة مرنة؛ بحيث يسمح ذلك للحشرات بالسير على سطحها، ويمكِّن الأجسام المعدنية الصغيرة كالإبر، أو أجزاء ورق القصدير، من الطفو على الماء. ويحدث ذلك بفضل حالة الترابط الحاصلة بين جزيئات المادة المتجانسة، وهي قوى تسمى قوى الجذب الجزيئية أو (قوى التماسك)، وهي المسئولة عن تماسك جزيئات هذه المادة بعضها ببعض.

بمعنى آخر هي قوة ترابطية بين أجزاء المائع تمنح سطحه صلابة وقوة تمكّنه من التصدي لكثير من محاولات الاختراق.

وبالنظر في هذه الخاصية المتفردة يمكننا استلهام غرض الفلاسفة والخبراء من توجيه المصلحين وقادة التغيير بالتشبه بالماء وتكرار قولهم: "كن كالماء.. كن كالماء"؛ لما له من خصائص لها تعلق واضح بأكثر من مجال من مجالات الإصلاح والتغيير.

ارتباط منهجي:

إن حالة التجاذب الحاصلة بين أجزاء المائع تمنع كثيرًا من الأجسام من اختراقه، تمامًا كما الحال بين أبناء الجسد الدعوي الواحد؛ فحالة الارتباط العقدي والمنهجي والعاطفي تشكل حائط صد منيعًا أمام اختراق الكثير من المشكلات التي تسعى لهدم الكيان الدعوي أو تقويضه، أو التأثير سلبًا على أبنائه المخلصين، وليس أنجع في طرد وساوس التحريش، وخوارق الإفساد، وتهييج النعرات، من إصلاح ذات البين، وتقوية روابط الأخوة وأواصر المحبة القائمة على الطاعة والتقوى؛ وما أجمل التوجيه القرآني حينما اقتحم أسماع المؤمنين إثر وقوع نزاع بينهم على الغنائم بعد غزوة بدر بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال: 2]؛ حيث اختلفوا على الأنفال فسألوا عن كيفية تقسيمها، فلفحتهم الآيات الأربعون الأولى من سورة الأنفال بين توجيهاتها الإيمانية، ولَفتاتها التربوية يمينًا ويسارًا، والتي كان أولها وعلى رأسها ضرورة التمسك بحبل الله وإصلاح الأواصر وتمتين العلاقات، حتى أتاهم الحكم في آية واحدة بعد تلك الأربعين، وقضي الأمر.

إن في هذه الظاهرة ميزة كبيرة للماء، فهي التي ستمكّنه فيما بعد -بكل سهولة وبحسابات معينة- من الصمود تحت وطأة أوزان السفن والبواخر العملاقة، وحمل آلاف الأطنان بلا كلل أو اضطراب، بل وإرسالها إلى مواطن غاية في البُعد ما كانت لتبلغها إلا بشق الأنفس، أو ما كانت لتبلغها أصلاً. وهذه الظاهرة هي ذاتها التي تساعد الكيانات الدعوية على تحمل المصاعب والمشاق، وتجاوز الأزمات، والانتصار على الهزائم، والتصدي لسهام التشغيب والتشويش.

التكيُّف:

وبالملاحظة يتضح أن هذه القوى الترابطية في السوائل أقل منها في الأجسام الصلبة، وهذا ما يمنح الماء القدرة على التشكُّل حسب شكل الإناء الذي يوضع فيه مع الاحتفاظ بصفاته الأساسية، ومكوناته الرئيسة، وتأثيراته المحتمَلة فيما حوله؛ حيث يتميز بالمرونة والانسيابية. وهذا هو ذاته ما ينبغي أن يتحلَّى به المربون والدعاة المنمازون عن غيرهم؛ حيث يمكنهم ببراعة تغيير أنشطتهم وأسلوبهم بناءً على المتغيرات من حولهم، سواء التغيرات المكانية أم الزمانية أم الظرفية، أم بتغير الجمهور محل الدعوة والتربية، ويتكيفون مع الظروف المحيطة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، والتضييق والانفتاح، وذلك بتغيير نمط الدعوة نفسه، أو أسلوب الخطاب، أو تغير الأولويات حسب الحاجة والظرف، كل ذلك في إطار الثوابت والمنهجية الواضحة.

الإغراق بالأعباء:

لكن في المقابل لو زادت كتلة الأجسام الطافية على سطح المائع عن حدٍّ معين، ووصلت إلى الكتلة الحرجة التي لا يتمكن حينها سطح السائل من الصمود أمامها؛ فإن هذه الطبقة السطحية التي تحمل الأجسام تنهار في الحال، وتغرق بناءً على ذلك تلك الأجسام لتستقر في النهاية في قاع السائل.

هذا انهيار محتمل جدًّا في حياة الداعية والمربي إذا لم يراعَ حاله من قياداته، وإذا كُلِّف بما ليس من طاقته، سواء في الكم أم الكيف، وتكالبت عليه التكليفات التي تأتيه من كل مكان؛ فكثير من القيادات -نظرًا لقلة الكوادر المؤهَّلة- يحمِّل الداعية الناشئ ما لا يستطيع؛ بحيث يصير مسئولاً عن عدة أعمال في آنٍ واحد، فلا يكاد ينتهي من حلقة القرآن التي ينظمها للفتية حتى يوصلها بدرس يحاضر فيه الناشئة، ثم رحلة ينظمها للأشبال، ثم نشاط رياضي للشباب، ثم حفل إفطار مسئول عن تنظيمه والإعداد له بشراء المأكولات والمشروبات، هذا فضلاً عن دروسه ونشاطاته التنموية الذاتية التي إذا لم يهتم بها ضاع... وهلمَّ جرًّا. ليجد نفسه في نهاية الأمر مستهلكًا يفني أيامه في مهام كان يمكن تفويض غيره في أداء أغلبها بلا أي إخلال بنظامها أو صورتها النهائية.

إن حالة الإحباط التي بدأت تدب بين شباب الدعاة والمربين -لاسيما المتميزين منهم والموهوبين- لها تعلُّق صريح وواضح بحالة الإغراق بالأعباء والمهام، التي تستنفد قواهم، وتتركهم بعد مدة من الزمن خالي الوفاض من الهمة والنشاط والبناء الذاتي، ومثقلين بالإعياء والأنفاس المتلاحقة جراء التعب من ملاحقة أعبائهم ومطاردتها، فكم تضعضعت من كفاءات وقدرات وأدمغة ألمعية في مثل هذه الأعمال التي يمكن لأي من الأفراد أداؤها وبكفاءة!! في حين تُركت الكثير من ثغور الأمة شاغرة لأن هذا الكُفء قد شُغل بأعمال لا يتطلب القيام بها صاحب موهبة فذة أو ذكاء وقَّاد.

فاللهم جنبنا الإحباط، وأشغلنا بالمعالي، واجعلنا هداة مهتدين..