بقلم: د. رشاد لاشين
ملامح أسلوبه في تربية أسرته
الرؤية الصحيحة والقدرة على السلوك الصحيح هما حجرا الزاوية في التربية الصالحة، فمَن فقد الرؤية الصحيحة كان كالأعمى بغير مرشد، أو كالسائر في الصحراء بغير خريطة ولا بوصلة، ومَن فقد القدرة على السلوك الصحيح كانت الرؤية الصحيحة بالنسبة له مجرد ثقافة نظرية أو فلسفة بعيدة عن الواقع لا تُجدي نفعًا ولا تطوِّر حالًا، وحينما تدرس سلوك الإمام البنا داخل بيته تجده قدوةً في كل شيء، يملك رؤيةً صحيحةً راقيةً، ويمارس ممارسةً واعيةً غايةً في الروعة.
هيا بنا ندخل بيت الإمام البنا -رحمه الله- لنرى كيف كان يربي أولاده؟:
(1) رغم مشاغله الكثيرة ينظم وقته لرعاية أسرته:
أول شيء في سلوك الأب الناجح هو وجود الأبناء على خريطة اهتماماته؛ وتلك آفة العصر التي ضيَّعت الأجيال، فكثير من الآباء وحتى من الدعاة يُهمل أولاده بحجةِ مشاغله واهتماماته فهو طوال اليوم خارج المنزل، وحينما يعود ليلًا يجد أولاده نائمين، وقلما يبذل معهم جهدًا أو يُقدِّم لهم زادًا أو نفعًا؛ ولكن الإمام المجدد الذي حرص على إحياء الأمة بأكملها كان بيته وأولاده يحتلان مكانةً كبيرةً من اهتمامه وجهده وتنظيمه وترتيبه.
تقول كريمته سناء: «لم يشعرنا يومًا أن ضغط العمل يأتي معه للمنزل، فمثلًا لا نراه كما يفعل البعض الآن بمجرد ما يدخل المنزل يصرخ. ويتوعَّد.إلخ، بل أهم شيء في حياةِ الوالد كان التنظيم، ولو رأيت سيرة الوالد ترى أنه كان سائرًا على خُطى النبيﷺ وأنه واعٍ جيدًا لقول النبي ﷺ: «إن لبدنك عليك حقًّا.. إلخ»، فمثلًا كان ينام أربع ساعات فقط؛ ولذلك رحمه الله من وصاياه العشر أن الأعمال أكثر من الأوقات، هذا بالنسبة لأمثاله من المجاهدين، أما الآن فنحن نعرف كيف نُضيع الوقت ونتفنَّن في ذلك، فتراه رحمه الله دائمًا يحرص على الغداء معنا حتى وإن كان هناك ضيوف كان يحرص أن يحضرهم إلى المنزل ليكون موجودًا وقت الغداء».
ترتيب عجيب من أجل الأبناء
ثم تقول: «وحتى في سفره يرتبه بحيث يكون الوجه البحري في الشتاء وفي الصيف الوجه القبلي عكس الناس جميعًا بمجرد أخذ الإجازة في الصيف يذهب إلى وجه قبلي يمر عليه قريةً قريةً (ونجعًا نجعًا).
وكان يترك الوجه البحري للشتاء لأنه يمكن أن يذهب إليه ويأتي في نفس اليوم، فكان رحمه الله يذهب في الصباح إلى عمله ويعود ليكون معنا على الغداء وقد يرتاح قليلًا، حتى إنَّ وفاء حكَت لنا مرةً أنه طلب منها أن تُوقظه بعد سبع دقائق، فتقول ذهبتُ لعمل القهوة له وبمجرَّد أن جهَّزت القهوة وجدته بجانبي يسألني ها عملت القهوة يا وفاء، فكان قادرًا على التحكُّم في نفسه ولم يتركها تتحكم فيه أبدًا. فهو قد يسافر بعدها إلى إحدى محافظات بحري ويعود في المساء».
بركة الوقت وتوفيق الأداء
سألنا نجله أحمد سيف الإسلام المحامي هذا السؤال: نحن نعرف أن الإمام كان مشغولًا بالسفر والترحال لنشر الدعوة في أنحاء القطر فهل كان يجلس معكم وقتًا كافيًا؟ فقال: «كان الوالد رحمه الله رجلًا موفقًا والوقت الذي كان يخصصه لنا تجد فيه تعويضًا. ممكن يجلس معك ساعتين يشبعك فيهم».
(2) أرشيف كامل لرعاية كل ابن منذ ولادته:
كل ابن من الأبناء هو مشروع استثماري كبيرة لخدمة الدعوة بل لخدمة الإنسانية؛ لذا حرص الإمام البنا على التخطيط الجيد لكل ابن من أبنائه وحرص على أن يكون ذلك من خلال أرشيفٍ كاملٍ للرعاية؛ ويتضمن هذا الأرشيف كل الأمور وعلى رأسها الرعاية الصحية والرعاية التعليمية.
ومن البنود التي ذكرها (سيف الإسلام) والتي يتضمنها هذا الأرشيف الآتي: (1- تاريخ الميلاد 2- رقم القيد 3- تواريخ التطعيم. 4- الشهادات (الروشتات) الطبية 5- تقرير عن كلِّ حالةٍ مرضية على حدة 6- شهادات الدراسة 7- ملاحظات المستوى الدراسي 8-… 9-.. 10- ..).
وكان لكل ابن من أبنائه حينما يُولد (دوسيه) خاص، يكتب فيه الإمام بخطه على وجه الدقة تاريخ ميلاده -ورقم قيده- وتواريخ تطعيمه.
ويحتفظ بجميع الشهادات (الروشتات) الطبية التي تمَّت معالجته بها، بحيث إذا أُصيب أي منا بمرضٍ استطاع أن يقدم للطبيب المعالج هذه الشهادات مسلسلة بتواريخها، ويرفق مع كل شهادة ملحوظة عامة، ثم ما أخذه من دواء ولمدة كم يومًا؟ وكم استغرق هذا المرض؟ وهل أكمل الدواء أم لم يكمل؟
وكذلك شهادات الدراسة كان والدي -رحمه الله- يضعها أولًا بأول في هذا الدوسيه مسجلًا عليها بعض الملاحظات، مثل: (سيف) يحتاج إلى التقوية في كذا، وضعيف في كذا. (وفاء) تحتاج إلى المساعدة في مادة كذا. وهكذا وبالجملة كان ما يختص بأحد أولاده.
وتقول كريمته سناء: «أما فيما يخصُّنا فقد كان يرسلنا مع أحد الإخوة لشراء احتياجاتنا المدرسية مع بداية الدراسة، وقد أعد -رحمه الله- لكل واحد فينا ملفًّا خاصًّا به يحوي كل ما يخصه من علاجٍ أو تقديم في المدرسة والتطعيم وخلافه، حتى التطعيم والأدوية التي أخذناها من يوم ولادتنا وأمراضنا التي مرضنا بها من يوم مولدنا، فهو رحمه الله بالنسبة لواجباته منظَّم جدًّا جدًّا فلا يطغى شيء على شيء عنده».
وكان الإمام البنا رحمه الله يطبق أرقى طرق الرعاية الطبية؛ تضيف كريمته سناء: «أما في حالة المرض فكانت هناك حجرة بجوار حجرة الوالد والوالدة لعزل المريض وتمريضه فيها».
(3) تقديم العناية والرعاية والاهتمام بالأبناء إلى الدرجة التي تجعلهم يحسون بأنهم محط اهتمام كبير من والدهم:
أن يستشعر الابن أنه رقم (1) في حياة والده فذلك قمة النجاح في العملية التربوية، وعن اهتمام الإمام الشهيد بأبنائه ورعايته لهم يقول نجله سيف الإسلام: لا أتزيد أو أبالغ في أمر من الأمور حينما أذكر أن الإمام حسن البنا كان رب أسرة مثاليًّا. منذ أن وعيت لم أشعر يومًا -سواء في طفولتي أو صباي- بأنه قصَّر في العناية بنا أو الاهتمام بأمورنا، بل لعلنا نعجب حينما نشعر أننا لم نصل إلى درجةٍ في مثل هذه العناية.
تقول المهندسة رجاء حسن البنا: «أذكر أن والدي رحمه الله كان يرسل لي الإفطار يوميًّا وأنا بالروضة وكان عمري وقتها خمس سنوات؛ وذلك اهتمامًا منه بي وحرصه على أن أتناول الإفطار ولأنني كنت طفلة فقد أنسى ساندويتشات الإفطار أو من الممكن أن يأخذه مني أحد الأطفال؛ فكان رحمه حريصًا على وصول الإفطار لي يوميًّا رغم مشاغله واهتماماته لا ينسانا أبدًا».
(4) الحنان والرعاية وتفقد الأحوال:
أقصر طريق إلى قلب الطفل بل قلب أي إنسان هو بذل الحب والحنان والعطف والرعاية، فالإنسان عبد الإحسان والتربية لا تنجح بالغلظة والشدة وإصدار الأوامر عن بعد، بل بالرفق والحب والقرب والمعايشة، وهكذا كان الإمام البنا رحمه الله، تقول ابنته الفاضلة سناء: «وكان لا بد أن يقوم بتقبيلنا ونحن نائمين ويطمئن على غطائنا؛ وكان يوقظنا في الشتاء ونحن أطفال لكي يدخلنا الحمام ولا يقوم بإيقاظ أمي أبدًا، فلا يمكن بعد نومها أن يقلقها، وبعد أن ينصرف الإخوان يجلس مع أختي الكبرى وفاء ليعرف منها أخبار البيت ومَن زارنا وماذا فعلنا طوال اليوم وما هي احتياجاتنا؟»
وكان ثمرة ذلك كله الحب والتعلق الشديد من الأبناء؛ وتضيف أيضًا:
«فكنا نحبه جدًّا. ونطيعه لأننا نحبه وليس خوفًا منه، حتى إنه إن سافر. افتقدناه جميعًا. وأذكر أن أختي رجاء كانت تقوم بالاتصال بالمركز العام لتسأل الأستاذ عوض عبد الكريم يوميًّا في وقت الغداء عن الوالد (لأنه كان مسافرًا)».
(5) الاهتمام بتدبير شئون الأسرة وتنظيم ميزانيتها:
التوازن السلوكي وإعطاء كل ذي حق حقه كما أمر رسول الله ﷺ يقرب المسافات بين الآباء والأبناء، فالابن الذي يرى أنه محط اهتمام ورعاية وبذل وعطاء من والده لا شك أنه سيدين له بالولاء والانتماء والحب والطاعة يقول ابنه سيف الإسلام: «كذلك كانت عناية الإمام الشهيد حسن البنا بأمور بيته عناية ممتازة، كان يكتب بنفسه الطلبات التي يحتاج إليها المنزل شهريًّا، ويدفعها في أول كل شهر إلى أحد (الإخوان)؛ وهو الحاج (سيد شهاب الدين) صاحب محل البقالة الشهير ليوفر هذه الطلبات في كل شهر».
وتقول ابنته سناء: «وكان رحمه الله لديه (نوتة) بطلبات الشهر للمنزل وحتى أيام “الخزين” وهي الأشياء التي لا توجد إلا مرةً واحدةً أو حسب المواسم، مثل الفول والزيتون والأرز، فيعرف مواسمها جميعها ويحضرها للبيت لعلمه بانشغال والدتنا في البيت».
(6) العطف ومراعاة مشاعر الطفولة والتربية على الطاعة بغير أوامر:
يقول ابنه سيف الإسلام: «كان -رحمه الله- عطوفًا إلى أقصى درجة، راعى مشاعر الطفولة في أبنائه بشكلٍ كبير، كان لديه القدرة على جعلنا نطيعه دونما حاجةٍ إلى أمر، وكنا نعتبره -بلا شيء- له هيبة دون رغبة في مخالفته. وأذكر أنه عرَّض لي بأن دخول السينما أمر لا يليق بالمسلم، فلم أحاول أن أدخل السينما قط، بل ظللت حتى اليوم لم أدخلها، وهذا من قوة تأثيره وجاذبيته».
إكرام الأبناء وعدم البخل عليهم:
كان الإمام رحمه الله يقدم ثلاثة أنواع من المصروف:
– مصروف يومي: 3 قروش
– مصروف أسبوعي: 10 معادن
– مصروف شهري: 50 قرشًا
والغرض من المصروف عنده هو إشباع الطفولة وليس كما يفعل البعض بأن يعطي المصروف بيد ثم يأخذه باليد الأخرى بحجة الادخار لشراء الحاجيات.
سألنا الأستاذ سيف: المصروف في حياة كل طفل له أهمية خاصة فكيف كان حال الوالد معكم في المصروف اليومي؟
فقال: «كان الوالد رحمه الله كريمًا جدًّا مع أبنائه. أذكر أن كل واحد منا كان يأخذ مصروفًا في سنة 1942م، وسنة 1943م ثلاثة قروش، وهذا مبلغ كان يعتبر كبيرًا في هذا الوقت؛ لأن زملائي في المدرسة لم يكن الواحد يأخذ مصروفًا إلا ربع قرش أو نصف قرش».
وبسؤاله عن غرض الوالد من هذا المصروف الكبير قال: «كان يريد أن يعمل لنا عملية إشباع لأن إحساس الطفل بالحرمان أمر صعب جدًّا».
وبسؤال الأستاذ سيف عن كيفية التصرف في هذا المصروف الكبير؟ قال: كنت أشتري الحلوى والشيكولاتات واللعب والكتب، وكنت أصرف مصروفي كله يوميًّا ثم يقول: وهذا منشور في مجلة (مسامرات الحبيب) التي أجرت حوارًا مع الوالد، ولا زال هذا العدد عندي، فقد سألته: هل تدخر شيئًا من مرتبك؟
فقال: إني لا أدخر شيئًا لأنني أنفق كل مرتبي.
فسأله المحرر: كم تعطي لأبنائك من مصروف؟
فقال: ثلاثة قروش للواحد.
سألنا نجله سيف: هل المصروف الكبير يفسد الأبناء؟ فنحن نرى الناس في هذه الأيام يخشون من إعطاء الأبناء مصروفًا كبيرًا حتى لا ينحرفوا فقال: التربية محصلة عدة عوامل مختلفة مثل الطبخة تضع مقادير معينة بنسب سليمة تعطيك ناتجًا سليمًا فليس المهم مصروف كبير أو صغير المهم طريقة التربية.
(7) تربية الأبناء على الإنفاق في سبيل الله:
(ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط) والمربي الناجح هو الذي يربي ابنه للنهوض بأمته عن طريق تقديم النفع لغيره ويبدأ ذلك ببساطة في مرحلة الطفولة بتربية الابن على الإنفاق في سبيل الله حتى لا يكون أنانيًّا يحرص على نفسه فقط؛ لذا كان الإمام البنا يحرص على غرس هذه القيم في أبنائه بتعويدهم الإنفاق ليس مرة عابرة بل سلوكًا دائمًا ومستمرًا كل جمعة حتى يتأصل السلوك ويتعمق في نفس الابن فيكون معطاءً نافعًا باذلًا الخير لغيره ناهضًا بأمته:
يقول ابنه الأستاذ سيف الإسلام: «كان الوالد -رحمه الله- يعطينا بعض المبالغ يوم الجمعة، ويطلب منا توزيعها على بعض الفقراء في المسجد، فقد كان يعطيني عشرة معادن لأوزعها يوم الجمعة بعد الصلاة ولم يكن يتركني هكذا بل علمت فيما بعد أنه كان يرسل مَن يراقبني كيف أوزعها ليطمئن على حسن تصرفي فيها».
(8) التربية على النجاح المقترن بالإيمان وتعليم الأبناء قيمة الحياة:
(ليس الفتى مَن قال كان أبي .. ولكن الفتى من قال هاأنذا).
أن تقدم الرعاية والاهتمام وتُنفق على أبنائك وتوفِّر لهم الحياة الكريمة فهذا لا يكفي فعاجلًا أو آجلًا ترحل عن الدنيا، وتترك ابنك يواجه الحياة، ومن أهم معايير نجاحك كأب أن تدرب ابنك وتعلمه كيف يدير الحياة وكيف يصنع النجاج حتى لا تعصف به رياح الفشل والضياع بعد رحيلك.
يذكر سيف الإسلام المقولة الجميلة الرائعة لوالده: «إذا وُجد الرجل المؤمن الصحيح وُجدت معه عوامل النجاح جميعًا». ثم يقول: «وأذكر وأنا صغير في المرحلة الابتدائية أن والدي- رحمه الله- قال: “على كل فرد أن يتقن حرفة، وكان- رحمه الله- يتقن إصلاح الساعات، فأخذني ذات مرة في الإجازة الصيفية، ودفع بي إلى مطبعة (الإخوان المسلمين)، وطلب من مديرها الأخ (سيد طه) أن يتولاني برعايته، ويعلمني شيئًا؛ وذلك لحرصه على تطبيق السنة وذكر لي الحديث النبوي الشريف: «إن الله يحب المؤمن المحترف»، ولا أتجاوز إذا قلت: إن هذه الفترة القصيرة نفعتني كثيرًا في حياتي العملية بعد ذلك».
(9) التربية بالتوجيه عن بعد وعلى أن يكون السلوك نابعًا من داخل الإنسان وليس مفروضًا عليه:
وتقول ابنته سناء: «رحمه الله كان توجيهه عن بُعد، فأذكر أن أخي سيف كان يحبُّ قراءة قصص (أرسين لوبين) فلم يقل له لا تقرأها، بل ذهب وأحضر له قصص الأمجاد الإسلامية والعربية، أمثال عنترة بن شداد، وصلاح الدين وغيرهما، حتى إنه بعد فترة كان من الطبيعي أن يترك (أرسين لوبين) ويتوجه إلى هذا النوع من القراءة، فقد كان يوجِّهنا عن بُعد ليكون العمل الذي نقوم به نابعًا من داخلنا وليس منه هو ومن أوامره».
(10) التربية بالحب وغرس القيم بطريقة عملية تطبيقية:
إصدار التعليمات وتقديم النصائح والإرشادات فقط وإطلاق الأوامر والتحذيرات لا ينجح العملية التربوية مع الأطفال الصغار بل في الغالب تكون نتيجته الصدود والإعراض وعدم التقبل النفسي، أما الطريق الناجح الصحيح فهو غرس القيم في النفوس بطريقةٍ عمليةٍ تطبيقيةٍ بالأخذ بيد الطفل للممارسة بتوضيح الوسيلة والمعاونة على التنفيذ بالحب والحرص والتدريب على السلوك، تقول ابنته سناء:
«وفي إحدى المرات أذكر أنه كان لنا جارة وكانت تضع في أصابعها (أكلدور: طلاء أظافر)، وطبعًا لن أطلب منها أن تضعه لي فأحضرت قلمًا أحمر وقمت بتلوين أصابعي وكنا نختلف أنا وسيف مَن يجلس على يمين السفرة (طاولة الطعام) ومن يجلس على شمالها، وكان من يجلس على يمينه هو مَن قام بعمل جيِّد أو صح، ومرات أخرى كان يجلسني أنا حتى لا يكسر بخاطري، فأنا أصغر من سيف فجلست على يمينه يومها فرآني، وكان شديدَ الملاحظة،
فسألني وقتها: ما هذا يا سناء؟ وأخبرته أني رأيت جارتنا تضعه، فقال لي أتعرفي أن هناك أحدًا من الصالحين قال «كُل مع الكافر ولا تأكل مع أبو أظافر»؛ لأن الأظافر تجمع تحتها أشياء غير نظيفة، هيَّا قومي ونظِّفيه وسننتظرك، لن نأكل، فذهبت وأحضرت (موس) وحاولت إزالته فأزلت جزءًا منه وامتنع الباقي من الخروج، ولما أخبرته بذلك قال «خلاص.. تعالي إلى الطعام ولا تكرريها مرةً أخرى»، فرحمه الله كان تعليمه عمليًّا، ولم يكن بالكلام فقط. ولا بد لي أن أقول إنه كان يعلمنا -رحمه الله- بالحب، فكنا نحبه جدًّا ونطيعه؛ لأننا نحبه وليس خوفًا منه».