د.يوسف القرضاوي

مما ينبغي أن نذكره ونذكّر به هنا: التربية الوسطية التي تميّز بها الإمام حسن البنا، ومدرسته، وقد شرحناها في كتابنا (التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا).

فإذا كان المسلمون وسَطاً بين الأمم والملل، وكان أهل السنة وسطاً بين الفرق، فالإخوان وسط بين الجماعات. فهم يوازنون بين العقل والعاطفة، وبين المادة والروح، وبين النظر والعمل، وبين الفرد والمجتمع، وبين الشورى والطاعة، وبين الحقوق والواجبات وبين القديم والجديد.

■ التوسط في الموقف من التراث الإسلامي:

وقد انتفعت الحركة بالتراث الإسلامي كله، فأخذت من علماء الشريعة العناية بالنصوص والأحكام، ومن علماء الكلام الاهتمام بالأدلة العقلية وردّ الشُبهات، ومن علماء التصوف العناية بتربية القلوب وتزكية النفوس، مع الحرص البالغ على التحرر مما علق بهذا التراث من شوائب ومحدثات، والرجوع إلى النبع الصافي من كتاب الله وسنّة رسوله.

• بين التعصب المذهبي واللامذهبية:

لم يقف حسن البنا من التراث الفقهي بمذاهبه ومدارسه موقف الرفض المطلق، كما صنع بعض الناس، الذين يسمّونهم (اللامذهبيين)، ولا موقف القبول أو التقليد المطلق للمذهب، كما فعل آخرون، فلم يوجب التقليد أبدا للمذاهب، ولم يُحرّمه كذلك أبدا على كل الناس، لكنه أجازه لبعض الناس بقيود وشروط هي غاية في الاعتدال

 فقال: فقي (الأصل السابع) من الأصول العشرين: (ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين، ويحسن به – مع هذا الإتباع – أن يجتهد ما استطاع في تعرُّف أدلة إمامه، وأن يتقبّل كل إرشاد مصحوب بالدليل، متى صحَّ عنده صلاح مَنْ أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر) أي القدرة على الترجيح والاجتهاد ولو جزئيا.

• الاعتدال في الموقف من تراث السلف:

وليس معنى هذا أنّ كل ما قاله إمام من أئمة الدين حق وصواب، فإنما هو مجتهد في الوصول إلى الحق، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وليس علينا – بل ليس لنا – إذا تبيّن خطؤه أن نتّبعه.

ولهذا قال في (الأصل السادس) بصريح العبارة: (وكلّ أحد يؤخذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم. وكل ما جاء عن السَلَف – رضوان الله عليهم – موافقاً للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسنّة رسوله أولى بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص – فيما اختُلِف فيه – بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ما قدَّموا).

وهذا هو الاعتدال، كما أنه هو الإنصاف الذي لا يستطيع أحد أن يماري فيه، وهو موقف شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المركز الجليل (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).

• ما تلون بلون عصره وبيئته لا يلزم العصور الأخرى رعايته:

ولم يقف رائد الحركة الإسلامية عند هذا الحد، بل أعلن أن كل الآراء والعلوم التي تلونت بلون عصرها وبيئتها لا تلزمنا نحن دعاة الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري، ولنا الحرية أن نجتهد لأنفسنا كما اجتهدوا، وإن كنا لا نهمل دراستها والانتفاع بها، فهي ثروة عظيمة بلا شك.

يقول في (رسالة المؤتمر الخامس):

(يعتقد الإخوان المسلمون أنّ أساس التعاليم الإسلامية معينها هو كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبداً، وأن كثيراً من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام، وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها، والشعوب التي عاصرتها، ولهذا يجب أن تستقي النُظم الإسلامية التي تُحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي: معين السهولة الأولى، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية، حتى لا نُقيِّد أنفسنا بغير ما قيَّدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه، والإسلام دين البشرية جميعاً).

هذه هي روح التجديد الحق، تجديد الاعتدال لا تجديد الشطح والتطرف. هذا موقفه من قضية الفقه وقضية الاجتهاد والتقليد، والمذهبية واللامذهبية، وسَطَاً معتدلاً، لا غلو ولا تقصير.

■ التوسط في الموقف من قضايا العقيدة:

وكذلك كان موقفه في قضية (العقيدة) وما جرى حولها من خلاف في بعض المسائل، وفهم بعض النصوص، واختلاف الفرِق والمذاهب في ذلك. لقد كان يعتنق عقيدة أهل السنة والجماعة، ويتبنى طريق السلف في فهم الآيات والأحاديث المتعلّقة بصفات الله تعالى.

وكان حريصاً كل الحرص على تحقيق التوحيد، ومحاربة الشرك بكل ألوانه وأنواعه: أكبره وأصغره، وجليّه وخفيّه، منكراً على مظاهر الوثنية، وكل المبتدعات الشركية التي دخلت على حياة كثير من المسلمين، مثل الزيارات الشركية للأضرحة، والاستغاثات الشركية بالأولياء، وإتيان الكهنة العرّافين وتصديقهم، إلى غير ذلك من صور الأباطيل والانحرافات.

ولكنه يمهّد لهذه الحملة على الشركيات والبدع، بما يهيئ الأنفس والعقول لتقبّلها، ويصوغ إنكاره في عبارات لبقة حكيمة، تجمع بين مرارة الحق وحلاوة الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.

• التوسط في الموقف من الأولياء ومقابرهم:

اصغ إليه في (الأصول العشرين):

(محبة الصالحين واحترامهم، والثناء عليهم بما عُرِف عليهم من طيب أعمالهم، قُربة إلى الله تبارك وتعالى. والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]. والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية، مع اعتقاد أنهم – رضوان الله عليهم – لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، في حياتهم، أو بعد مماتهم، فضلاً عن أن يهبوا شيئاً من ذلك لغيرهم. وزيارة القبور أياً كانت: سنّة مشروعة، بالكيفية المأثورة، ولكن الاستعانة بالمقبورين أياً كانوا، ونداءهم لذلك، وطلب قضاء الحاجات منهم، عن قُرب أو بُعد، النذر لهم، وتشييد القبور، وسترها، وإضاءتها، والتمسح بها، والحَلف بغير الله، وما يلحق بذلك من المبتدعات: كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال سداً للذريعة).

وهكذا نراه يهتم ببيان الحق قبل فضح الباطل، ويقدم التعريف بالمعروف قبل إنكار المنكر. وبذلك يلين النفوس التي شبّت على الباطل وشابت عليه، ويدخل إليها دخول الداعية الموفق، والمربّي الحكيم، دون استثارة المعاندين، أو تأليب المخالفين.

• التوسط في قضية الصفات الإلهية الجبرية:

وكذلك كان الشأن في موضوع (الصفات الإلهية) وما ثار فيها من جدل بين العلماء من مؤولين وغير مؤولين، فهو يغض الطرف عن هذا الخلاف، راجعا إلى معين السهولة الأولى، بعيدا عن تكلّف التأويل، وإثم التعطيل، يقول في (الأصل العاشر): (ومعرفة الله تبارك وتعالى، وتوحيده، وتنزيهه، أسمى عقائد الإسلام، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة، وما يليق بذلك من التشابه .. نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرّض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء. ويسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]).

■ الاعتدال في تقويم التصوف:

وبمثل هذه الروح المنصفة المعتدلة وقف من التصوف: فلم يقبله كله بعجره وبجره، وسنيّه وبدعيّه، ولم يرفضه كله بما فيه من صواب وخطأ، وحسن وسوء، بل كان مبدِؤه هنا: خذ ما صفا ودع ما كدر.

فليس كل ما في التصوف باطلا، وليس كله حقا، وليس كل المتصوفة مبتدعة، وليس كلهم على سنّة، فلا بد من الانتقاء، والاختيار، والاستفادة من تراث القوم، وفيه من الحرارة والتأثير ما ليس في غيرهم، ولكلامهم صولة ليس لكلام من سواهم، وقد سجل رأيه في التصوف بصراحة في كتابه (مذكرات الدعوة والداعية).

ورغم أنه بدأ في أول الأمر على صلة بإحدى الطرق فهو لم يُسلم زمامه إليها، بل أخذ منها وترك، وقال عن نفسه وعن صديقه السكري: كنّا مريدين أحرارا في تفكيرنا، وإن كنّا مخلصين كل الإخلاص – في تقديرنا – للعبادة والذكر وأدب السلوك.

مع أن الطريقة نفسها كانت أبعد من غيرها عن البدع، وكان يعجبه من شيخها شدّته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى للملوك والكبراء، واتباع للسُّنن ومحاربة للبدع، ولم يكن يصغي كثيرا لما يسمعه من كرامات الشيخ وخوارقه الحسية، فعمله في هداية الخلق، ونشر الحق أعظم من الكرامات في نظره.

■ التوسط في الموقف من البدعة:

ولم تلن قناة حسن البنا للبدع والمحدَثات التي راجت بين كثيرين من المتصوفة عن الزيارات البدعية للأضرحة، والتبرّك بالقبور، ودعاء الأموات، وتعليق التمائم، وغيرها، فأعلن الحرب على هذه الأشياء في )الأصول العشرين(، واعتبرها كبائر تجب محاربتها، ولا نتأوّل لها سداً للذريعة.

ومع هذا قال في إنكار البدع ومقاومتها: (كل بدعة في دين الله لا أصل لها – استحسنها الناس بأهوائهم – سواء بالزيادة فيه أو بالنقص منه: ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شرّ منها). وهذا هو الفقه حقاً، فإنّ السكوت على المنكر واجب إذا أدّت مقاومته إلى منكر أكبر منه. ولهذا أصل في القرآن والسنّة كما هو معلوم في موضعه.

ولهذا كان يصلي التراويح في رمضان ثماني ركعات حسبما صحّ من الحديث عن عائشة .. ولكن لم ينكر على من صلى عشرين، فلكل من الفريقين وجهة ودليل، وسيظل الخلاف في الفروع قائماً لأسباب ذكرها هو في أكثر من رسالة من رسائله.

وقد حكوا عنه أنه زار بلداً اختلف أهله بين صلاة الثمانية وصلاة العشرين، وقام بينهما النزاع على أشدّه، حتى كادوا يقتتلون، واجتمع الفريقان ليسألوه، لم يجبهم بل سألهم هو عن صلاة التراويح: أسنّة هي أم فريضة؟ فقالوا جميعاً: بل سنّة. فقال: والأخوة بين المسلمين واتحاد كلمتهم: سنّة أم فريضة؟ قالوا جميعاً: بل فريضة. فقال في قوة ووضوح كيف تهدمون فريضة من أجل سنّة؟ خير لكم أن تدعوا صلاة التراويح نهائياً في المسجد، وتحتفظوا بأخوتكم سليمة، بدل أن تُصلُّوا ويضرب بعضكم وجوه بعض.

كانت مزيّة حسن البنا الجمع بين عقل السلفي المتبع، وقلب الصوفي المتذوّق. وكذلك أراد لأصحابه. فهو في العقيدة سلفي خالص، يؤمن بالتوحيد، ويحارب الشرك أكبره وأصغره، وجليّه وخفيّه، ويتبنّى منهج السلف في آيات الصفات وأحاديثها كما بيّن ذلك في رسالته عن (العقائد) وفي أصوله العشرين.

وهو في العبادة كذلك متّبع لا مبتدع، فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ولكنه في تزكية الأنفس، وتهذيب الأخلاق، وعلاج أمراض القلوب، ومقاومة الهوى، وسد مداخل الشيطان إلى قلب الإنسان متصوف سنّي، ذوّاقة نقّادة، يأخذ لنفسه ولأتباعه من كتب القوم ومناهجهم ما يرقّي الروح، ويطهّر القلب، ويوثق الصلة بالله، والحب بين الإخوان.

وموقفه هنا يشبه إلى حدّ كبير موقف شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، فقد استفادوا من التصوف – علما وعملا وتعليماً – وكتبا في ذلك رسائل وكتباً عديدة، منها لابن تيمية مجلدان في فتاويه: أحدهما تحت عنوان: (التصوف) والثاني تحت عنوان: (السلوك).

أما ابن القيم فله مؤلفات عدة منها: (الداء والدواء)، (طريق الهجرتين(، (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين). وأعظمها كتابه الجليل (مدارج السالكين، شرح منازل السائرين إلى مقامات: إياك نعبد وإياك نستعين). و(المنازل) رسالة موجزة مكثّفة لشيخ الإسلام إسماعيل الهروي الحنبلي، ولكنه طالما خالفه فيما ذهب إليه فيها، قائلا: (شيخ الإسلام حبيب إلينا، ولكن الحق أحب إلينا منه).

وكان ابن تيمية وتلميذه من كبار الربّانيين، أرباب القلوب الحية، والنفوس الزاكية، والأرواح الموصولة بالملأ الأعلى، حتى حكى ابن القيم عن شيخه أنه قال: إنه لتمر علي أوقات أقول فيها: لو كان أهل الجنة على مثل ما أنا فيه لكانوا في حال طيبة! ولمّا حبسوه في القلعة لم يوهن ذلك من عزمه، ولم يضعف من أُنسه بمولاه، وقال في ذلك: إنما المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه. وقال: ماذا يصنع بي أعدائي؟ إن سجنوني فسني خلوة، وإن نفوني فنفيي سياحة، وإن قتلوني فقتلي شهادة!

ويبدو لي من تتبّع حياة حسن البنا ومراحل تفكيره ودعوته: أنه بدأ أقرب إلى الصوفية، وانتهى أقرب إلى السلفية، ولكنه لم يقم بينها يوما حربا، بل طعّم صرامة السلفية بروحانية التصوف، وضبط مواجيد التصوف بالتزام السلفية، وكان ذلك هو الطابع الغالب على أتباعه إلا ما ندر.

■ الاعتدال في النظرة إلى المجتمع وتحديد هويته:

ومن دلائل الاعتدال والتوازن في تربية الإخوان، كما فهمها حسن البنا ونفّذها: نظرته إلى المجتمع وعلاقة الإخوان به، فهي نظرة وَسَطية معتدلة، تنظر إلى المجتمع من أفق رحب، ومن زوايا متعددة، وبمنظار سليم لا يشبه الغبش والقتام.

فليس هو مجتمعاً خالص الإسلام، كامل الإيمان، كما يتوهّم السطحيون من الناس الذين يشيعون أن أمّة محمد بخير، وأنه لا ينقصنا إلا العلم و(التكنولوجيا)وبذلك تنحل كل العُقد، وتنفض كل المشكلات.

فلا شك أن المجتمع في شتى بلاد الإسلام يعاني أمراضا خطيرة، عقدية وفكرية وخُلُقية واجتماعية، وأن الفساد قد تغلغل في شتّى نواحيه: فساد في العقول، اضطربت به العقائد والمفاهيم، وفساد في الضمائر، اضطربت به الأخلاق والأعمال، وفساد في التشريع، اضطربت به النظم والقوانين، وفساد في الأسرة، اضطربت به العلاقات بين الأزواج والوالدين والأولاد، وفساد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كلها، جعل بلاد المسلمين في مؤخرة العالم بعد أن كانت في الطليعة من قافلة البشر، ومأخذ الزمام منها.

ولا شك أن هذا كله نتيجة ضمنية للانحراف عن الإسلام الصحيح، فهماً وإيماناً وتطبيقاً. ولولا هذا ما كان المجتمع في حاجة إلى دعوة جديدة، تصحح فهمه للإسلام، وتجدد إيمانه به، وتدفعه ـ بالتوجيه الراشد، والتربية السليمة ـ على حُسن تطبيقه.

• مجتمعاتنا مجتمعات مسلمة:

ورغم هذا الانحراف والفساد الشائع في المجتمع، لم يذهب حسن البنا يوماً إلى أنه مجتمع جاهلي كافر. إنه قد يصف المجتمع بالانحراف أو الفسوق أو العصيان أو الابتداع .. أما الكفر والرّدة فلا.

فلا زالت شعائر الإسلام تُقام في هذا المجتمع، ولا زالت بعض أحكام الإسلام تُرعي وتُنفذ، ولا زال جمهور الناس مؤمنين بربهم ونبيهم وقرآنهم، ولا زالت العاطفة الدينية تحتل مكانها في الصدور، ولا زالت كلمة الإسلام هي المحرّك الأول للشعوب.

• الاحتراز من خطيئة التكفير للمجتمعات والأفراد:

كان حسن البنا يربي أتباعه على الاحتراز من خطيئة (التكفير) للمسلمين، والوقوع فيما وقع فيه الخوارج من قبل، حيث كفّروا مَنْ عداهم من المسلمين، واستحلّوا دماءهم وأموالهم، حتى كان من سماتهم البارزة: أنهم (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان).

وكان ينكر على الجماعات الدينية التي تتراشق فيما بينها بسهام التكفير، والاتهام بالشرك والردّة. والأصل الأخير من أصوله العشرين يقول في صراحة: (لا نُكفِّر مسلماً أقرَّ بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما، وأدّى الفرائض: برأي أو معصية، إلا إن أقرّ بكلمة الكفر، أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو كذّب صريح القرآن، أو فسّره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر).

إن تكفير الأفراد والمجتمعات – الذي تبنّاه بعض الدعاة إلى الإسلام فيما بعد، خطأ ديني، وخطأ علمي، وخطأ حركي. وفي تحديد علاقة الإخوان بالمجتمع، قامت تربية الإخوان على هذه النظرة المتّزنة. فلم تقم على الذوبان في المجتمع، أو مسايرته في خيره وشره، وحلاله وحرامه باسم (التطور) أو (التحديث) ونحو ذلك من العناوين التي يتكئ عليها دعاة (التغريب) وأدعياء (التجديد) في ديار المسلمين.

كما لم تقم أيضاً على رفض المجتمع، والاستعلاء عليه، ومعاملته معاملة العدو للعدو، ومخاطبته من بعيد، ومن عل، بأنف شامخ، وخد مصعَّر، وشعور بالعزلة والاستكبار. إنما قامت التربية على أساس الاهتمام بالمجتمع، والتفاعل مع أحداثه، والإحساس بآلامه وآماله، بحيث يفرح الأخ المسلم لأفراحه، ويأسى لأساه، ويعمل لإسعاده وإنقاذه وإصلاحه، فهو كالعضو من الجسد، أو كاللّبنة من البنيان.

وهكذا صوّر لنا النبي صلى الله عليه وسلم مجتمع المؤمنين: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" [1].

"مثل المسلمين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد"[2] .

"مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" [3].

• حب الوطن والعمل على رقيه:

والأخ المسلم كذلك محب لوطنه، عامل على تخليصه من كل غاصب، وتحريره من كل قيد يعوقه عن النهوض بواجبه عزيزاً مستقلاً. يقول الشهيد البنا في رسالته (دعوتنا في طور جديد): (إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة التي نبتنا فيها، ونشأنا عليها.

ومصر بلد مؤمن تلقّى الإسلام تلقّياً كريماً، وذادَ عنه، وردّ عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ، وأخلص في اعتناقه، وطوى عليه أعطف المشاعر، وأنبل العواطف، وهو لا يصلح إلا بالإسلام، ولا يداوَى إلا بعقاقيره، ولا يطبّ إلا بعلاجه.

وقد انتهت إليه، – بحكم الظروف الكثيرة – حضانة الفكرة الإسلامية، والقيام عليها، فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟ وكيف لا ندفع عن مصر بكل ما نستطيع؟ وكيف يقال: إن الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام!) [4]. انتهى

...................

  هوامش:

[1] متفق عليه: رواه البخاري في المظالم (2446)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2585)، كما رواه أحمد في المسند (19624)، والترمذي في البر والصلة (1928)، والنسائي في الزكاة (2560) عن أبي موسى.

[2] متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلةوالآداب (2586)، كما رواه أحمد في المسند (18373) عن النعمان بن بشير.

[3] رواه الطبراني في الصغير (907)، والأوسط (7473)، عن حذيفة بن اليمان، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه عبد الله بن أبي جعفر الرازي ضعفه محمد بن حميد ووثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان. (1/264)، انظر: المنتقى (997).

[4] انظر : كتابنا " التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا".