إن حملة لواء الدعوة الإسلامية بعد الإمام الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتب لهم النجاح إلا إذا ترسموا طريقه، ونهجوا نهجه، وتخلقوا بخلقه ، ولا شك أن الجانب الاجتماعي في شخص الداعي من الأهمية بمكان ، وقد تعدد مفردات الجانب الاجتماعي في شخص الإمام البنا إلى حد بعيد :
أ – اجتماعي يألف ويؤلف :
يقول صلي الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : أحاسنكم أخلاقًا ، الموطئون أكنافًا ، الذين يألفون ويؤلفون " ونحسب الإمام البنا من هؤلاء ولا نزكيه على الله ، فقد كان يتمثل هذا الحديث في حياته ، يتضح ذلك من سماته السابقة واللاحقة، ونضيف هنا تلك الشهادات الصادقة :
كان الأستاذ البنا يشارك الإخوان في كل المناسبات الفردية والاجتماعية ، فهو يخطب الجمعة والعيدين ، ويصلي التراويح بهم في رمضان بختمة القرآن كاملة ، ويجري في كثير من الأحيان صيغة عقود الزواج لهم بنفسه ، ويدعو لأطفالهم بالدعاء المأثور ، حين يولدون ويشيع جنائزهم ، ويوجههم في حياتهم العامة والخاصة أفضل توجيه ، ويدير معهم الحديث في كل المناسبات ، ويخلص لهم الحب والمودة من كل نفسه، وهم يبادلونه هذه العاطفة وهذا الشعور من أعماق قلوبهم ، وهذا هو سر تماسكهم ، وعجزت الدسائس والفتن عن أن تصل إلى كيانهم ، أو تنال من بنيانهم .
ويقول أنور الجندي : كانت صلة الداعية بإخوانه عجيبة حتى يكاد يشعر كل أخ من إخوانه أن له علاقة خاصة وصداقة خالصة ، يمتاز بها على من سواه ، فضلاً عن أن له سرائر روحية كريمة مع كل أخ من الإخوان ، وله كلمات نافعة يستوحيها من نفوسهم واتجاهاتهم تظل ثابتة ، تفعل فعل السحر كلما قدم بها العهد ، تبرق في أطواء النفس ببريقها الجذاب الخاطف كما يبرق الكوكب اللماع في ظلمة الليل .
وما تزال هذه الألفاظ الكريمة والتوجيهات الصادقة تؤثر في الأخ الحبيب وتذكي في نفسه اللهب المقدس كلما اشتد الحنين .
ب – جواد يعطي الإخوان حتى ما يلبسه :
كان رحمة الله عليه أرق من نسيم الصباح ، هذا العملاق الجبار الذي ملأ المشارق والمغارب ذكراً ، كان إذا كلم ولداً صغيراً في شأن من الشئون يحمر وجهه من الخجل والحياء لأن عنصر العاطفة كان طاغيًا على هذا الرجل ، ولا أقول مسيطراً عليه ، والحنين والرقة للإخوان والرقة للناس ، كان شيئا عجيبا والله إنه أبر بالواحد منا وأخوف عليه من أمه التي أرضعته ، وهذا أيضًا حملنا متاعب كثيرة ، متاعب عاطفة المرشد العام وقد كلمه في ذلك مرة الشهيد الشيخ محمد فرغلي ، وقال له : إنك تحملنا كل هذه المتاعب في سبيل إرضاء عاطفتك الشخصية ووفائك الشخصي ، كنا مثلاً إذا سافرنا معًا ويكون لابس " معطف – كبود – فإذا من الإخوان مثلا يقول له : ما أحلى هذا البالطو ، إنه جيد وجميل ، فيخلعه ويعطيه للأخ ويقسم ولا يعود يلبسه .
ج – يحب لغيره ما يحب لنفسه :
إن من علامات الإيمان أن ترى المسلم يحب لغيره كل خير يتمناه لنفسه ، وهو في نفس الوقت يبغض للناس كل شر يبغضه لنفسه عملاً يقول إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ، وتطبيقًا لهذا النص المبارك على حياة الإمام الشهيد رحمه الله نجد أنه آمن به عمليًا، وجعله نبراسًا لحياته ، يؤيد ذلك هذا الموقف الذي كان بالمعتقل عندما جاءته البشري بالإفراج عنه دون أخوية اللذين معه مع أن خروجه له مبرره القوى حيث يتولى الإمساك بدفة الدعوة ويوجهها حيث يريد الله لكنه – عليه رحمة الله – رفض الخروج بدون أخوية عبد الحكيم ، وأحمد السكري ، وأرسل رئيس الوزارة حسين سري باشا العضو البرلماني عن منطقة أسيوط حامد جودة إلى الإمام البنا في المعتقل محاولاً إقناعه بذلك ، إلا أن الإمام البنا أصر على موقفه ، وجلس مع حامد جودة يحدثه عن كيف تكون أخلاق القائد مع جنوده .
وتنازلت الحكومة أن تخرج الأستاذ المرشد بالقوة إلا أن الأستاذ عبد الحكيم عابدين هدد بقتل كل من يتعرض للإمام البنا أو يمس شعرة منه ، ورأى المرشد أن يقبل بالإفراج عنهما "البنا والسكري " حقنًا للدماء ففعل .
ومن الذكريات التي تكشف عن عبقرية الإمام الشهيد في حل المشكلات وإنقاذ المواقف ما بلغني من الأخ السيد " عبد الحي الخولي " نائب شعبة " سوهاج " بالصعيد ، فقد حدثني أن الشيخ " عبد الله المازني " عضو الهيئة التأسيسية رغب في تأسيس شعبة للإخوان في قريته " نجع مازن " ولم يرد الاستئذان من عمدة بلدته ، ورأي أن الإخوان أسمى من أن يستأذنوا أحداً في هذا الشأن فاتصل رأسًا بالمركز العام وطلب من فضيلة المرشد أن يفتح هذه الشعبة ومعه من يشاء من كبار الإخوان ، وأعد سرادقًا كبيراً يسع المئات من الناس ، وحدد اليوم الذي يحضر فيه ، ووافق الأستاذ المرشد ووعد بالحضور في الموعد المحدد .. وبعد إعداد السرادق الكبير وفي اليوم الذي قدم فيه المرشد بلغ العمدة " عمدة القرية " هذا الاحتفال وذلك الاستقبال فعز عليه أن يتم كل هذا دون علمه وبغير استئذانه وعلم عمدة البلدة ، فثار ثورة مُضرية وغضب غضبة " صعيدية " وعزم على أن يتقلد سلاحه مع مجموعة من الرجال الأشداء ذوي قرباه ليهدم هذا السرادق على رءوس أصحابه ويقتل من يتعرض له من الإخوان .. وفي اللحظة الأخيرة بلغ المرشد هذه الثورة العارمة وذلك العزم الرهيب؛ فما كان منه إلا أن توجه في خطوات سريعة إلى بيت العمدة ولم يعر اهتمامًا بالحفل الإخواني ومن فيه والاستقبال الذي ينتظره في ظلال التكبير والتهليل .. ومضي راكضاً إلى مقر العمدة؛ فالتقي به في منتصف الطريق ومعه عصابته الأشداء وبأيديهم الأسلحة والمعاول والحجارة .. فما كان من المرشد إلا أن اندفع إلى العمدة يحييه ويعرفه بنفسه قائلاً : " أنا " حسن البنا " جئت أعتذر إليكم مما فعله الشيخ " عبد الله المازني " معكم ، فقد أقام هذا الحفل الكبير دون استئذانكم، وقد جئت أطلب إليكم عقوبة شديدة عليه لمخالفة آداب الإسلام في موقفه هذا ، فما كان من العمدة إزاء كلمة المرشد إلا أن قال : لقد سامحته يا شيخنا من أجل خاطركم ، فأجاب الأستاذ ولكني لا أسامحه وأصر على عقوبته .. فقال العمدة : عفا الله عما سلف ، ويسرني أن أدعوكم إلى حضور هذا الحفل ليزداد بكم سروراً وشرفاً كبيراً " فلبى العمدة ومن معه طلب الأستاذ المرشد راضيًا مغتبطاً واندمج العمدة ومن معه في هذا الحفل يكبر مع المكبرين ويهلل مع المهللين .
وهكذا أنهى الله سبحانه وتعالى هذه الحملة النارية الحامية التي أدركها الإمام قبل اشتعالها وأطفأها بحكمته وتواضعه ، وقد آثر ألا يستريح لحظة بعد قدومه من هذا السفر البعيد المرهق وقد علاه غبار السفر ولم يجف عرقه بعد .. تاركًا المظاهر ؛ مظاهر القيادة والهتاف والتكبير والتعظيم ، فإذا بالنار المتأججة تتحول إلى برد وسلام وإذا بالخصومة المستعرة تنقلب إلي محبة غامرة .. وهكذا كان يعالج الإمام الشهيد المشكلات ويقضي عليها بنفحات إخلاصه وإيمانه وتقواه .
منقول بتصرف من كتاب "أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين" للأستاذ جمعه أمين عبد العزيز – رحمه الله