جاء حسن البنا إلى الدنيا فوجد الخلافات المذهبية تمزق شمل المسلمين، وتفرق وحدة المؤمنين، فدعا إلى الوحدة، وسعى إلى التقاء المسلمين جميعًا على أصول الدين، وفي ظل التوحيد، ونادى بالعودة إلى مصادر الإسلام الأولى من الكتاب والسنة؛ ليأخذ المسلمين دينهم من هذا المنهل الصافي كما فعل أسلافهم الصالحون.

وبغَّض- رحمه الله- في الجدل والمراء، ونهى عن التعصب المذموم للرأي، وكان كثيرًا ما يستشهد بالحديث الشريف "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، كما كان يوصي تلامذته وأتباعه بالقاعدة الذهبية "فلنتعاون فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه".

ولم يقف حسن البنا بدعوته عند حد الإصلاح الديني من محاربة البدع والاستمساك بالوحدة، والنهي عن التعصب للخلافات المذهبية إلى حد تكفير المسلمين بعضهم لبعض، وترك التزمُّت والجهود وفتح أبواب الاجتهاد حتى تظل الشريعة الغراء متجددةً وصالحةً لكل زمان ومكان، بل إنه رأى المسلمين في زمانه يفهمون الإسلام فهمًا خاطئًا قاصرًا، فمنهم من يظن أنه عبارة عن ركعات صماء، أو استغفار هو في حاجة إلى استغفار، ومنهم من يعتقد أنه صيام وقيام وأوراد وأذكار، فقام رحمه الله يجدد معنى الإسلام  في نفوس المسلمين، ويذكّر قومه بأن الإسلام عبادة وقيادة صلاة وجهاد ودين ودولة ومصحف وسيف، وثقافة وخلق وتشريع وقانون.

وهكذا نجح الإمام الشهيد في عرض ملامح الإسلام كاملة، وقدمه للناس كما أنزله الله على رسوله، وكما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم عقيدةً وشريعةً ومنهاجًا للحياة ونظامًا متكاملاً متميزًا في تدبيره لشئون الحكم والاجتماع  والاقتصاد والتشريع والقضاء.

ونشط حسن البنا كداعية إلى الله يندد بجشع الرأسمالية ويدعو إلى العدالة الاجتماعية كما جاءت في الإسلام، كما نهض الإمام الشهيد يحارب الشيوعية بما فيها من إلحاد وإباحة ويدعو إلى المبادئ الإسلامية بما فيها من ربانية وفضيلة ومكارم الأخلاق.

ولم يكتف حسن البنا بهذا المدى البعيد من الإصلاح ولكن نظر ببصره إلى العدو الخارجي والمستعمر الأجنبي الذي يهدد عقيدة المسلمين ويستعمر بلادهم ويستغل خيرات أرضهم ويسوق أبناءهم إلى الحروب ليكونوا طعمة للنيران وهو في ذلك لا يفرق بين سلفي وصوفي ولا بين سني ومبتدع.

نظر حسن البنا إلى هذا العدو الغاصب فأثارها حربًا شعواء على الاستعمار والمستعمرين ولفت نظر المسلمين إلى دينهم الذي يؤبى القسم ولا ينمو إلا في ظل العزة والكرامة والحرية (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون: من الآية 8).

ثم دعاهم إلى الوحدة ومقاومة المستعمر وحذرهم من نعرة القومية والشعوبية التي دسها المستعمرون ليمزقوا جسد المسلمين إلى أشلاء.

وليقسموا الوطن الإسلامي إلى أجزاء فيسهل ابتلاع كل جزء على حدة والبطش بكل شعب على انفراد.

ونادى الإمام حسن البنا بأن الإسلام وطن وجنسية، عنصر وقومية، فكل شبر من الأرض فيه نفس تردد "لا إله إلا الله" محمد رسول الله" هو جزء من وطننا وقطعة من صميم بلادنا، كما كان يدعو رحمه الله إلى الوحدة الإسلامية، ويرى أن الجامعة العربية خطوة نحو الوحدة العربية، وهذه بدورها خطوة نحو الجامعة الإسلامية والأخيرة هي مرحلة في طريق الوحدة الكبرى المنشودة الوحدة الإسلامية.

ولقد دعا الإمام الشهيد في حربه ضد الاستعمار وكفاحه للمستعمرين إلى القوة وإلى الجهاد وكفريضة ماضية إلى يوم الدين ضد المعتدين والغاصبين لبلادنا والسالبين لحريتنا وهو بذلك قد جدد ركنًا من أركان الدين كانت معالمه قد اندرست، وظن الجهلة من المسلمين أن الجهاد كان أيام النبي والخلفاء الراشدين وقد انقضى وولى زمانه إلى يوم الدين.

وكان الإمام يحارب الاستعمار في جميع جبهاته وفي وقت واحد فما كان يسعه أن يحارب الاستعمار البريطاني في وادي النيل، مصره وسودانه ويترك الاستعمار الإنجليزي الصهيوني يرعى فلسطين.

وما كان يرضى أن ينتظر حتى ينتهي الاستعمار الإنجليزي في مصر وفلسطين والأردن والعراق والهند قبل أن يهاجم الاستعمار الفرنسي الغاشم الذي يبطش بإخواننا في سوريا ولبنان وتونس والجزائر ومراكش، والاستعمار الإيطالي في ليبيا والاستعمار الهولندي في إندونيسيا.

والإمام الشهيد حسن البنا في حربه ضد الاستعمار وثورته للحرية ودعوته للوحدة الإسلامية إنما كان يضع حلقة جديدة في الكفاح الإسلامي بجانب الحلقة التي صنعها جمال الدين الأفغاني الذي كان ثائرًا يدعو المسلمين إلى الحرية، وإلى محاربة المستعمر الغاصب وإلى مقاومة الفساد والاستبداد من الملوك والحكام.

ولقد جمع حسن البنا بين طريقة السيد جمال الدين الأفغاني الثائر للحرية وعلى الفساد والداعي إلى الجامعة الإسلامية، معتمدًا في ذلك على إثارة النفوس وتحريك الهمم وتكوين رأي عام وبين طريقة الإمام الشيخ محمد عبده الذي كان يعتمد على التربية وإصلاح النفس ويدعو إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة.

فكان الإمام الشهيد ثائرًا ومربيًا في وقت واحد وقلما يجتمعان، ولم يترك حسن البنا كتبًا ومؤلفات ولكنه ترك جيلاً من المسلمين يؤمنون بالإسلام إيمانًا راسخًا عميقًا ويفهمون فكرته ودعوته فهمًا شاملاً كاملاً دقيقًا.

ومات السيد جمال الدين الأفغاني في عهد السلطان عبد الحميد، ولم تشيع جنازته ولم يعرف قبره حتى اكتشفه أحد المستشرقين.

ومات الإمام الشيخ محمد عبده في زمن الخديوي عباس، ولم تشيع جنازته وشاركهما الإمام حسن البنا في هذه الخاتمة وأن كان قد امتاز عليهما بالشهادة فلقي مصرعه على قارعة الطريق برصاص غادر مجرم من أذناب الملك الخليع المخلوع فاروق وقدمت رأس البنا إلى صاحب الجلالة في يوم عيد ميلاده؛ حيث كان يقضي سهرته الحمراء.

وحرمت الحكومة على الناس أن يشيعوه، ورأى الشعب نعشًا يحمل جثة هامدة ومن حولها رجال الشرطة مدججون بالسلاح وعلى طول الطريق إلى المقابر، ومن وراء النوافذ كنت تنطلق الزفرات وتسيل العبرات وترتفع الأصوات بالبكاء.

وهكذا غادر حسن البنا الدنيا بعد أن سكب آخر دفقة من حياته مع آخر نبضة من قلبه تاركًا من ورائه سيلاً متدفقًا من الوعي الإسلامي الذي لا بد أن يبلغ يومًا مداه.

رحم الله الفقيد الشهيد ورضي عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء..

--------------

* مجلة "الدعوة" العدد الحادي والعشرون- غرة ربيع الأول 1398- فبراير 1978.