الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ ، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

قال تعالي : "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الإسراء: 1)..
لم تكن معجزة الإسراء والمعراج حدثا تاريخيا خاصًّا بأهل زمانه، ولكنها كانت حدثا فاصلا في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل علامة فارقة في تاريخ البشرية كلها؛ حيث انتقلت معها قيادة العالم إلى هذه الأمة الوسط التي أذن الله لها أن تكون خير أمة، كما قال عز وجل: " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران: 110)..
لقد صنعت معجزة الإسراء والمعراج واقعا جديدا لهذه الأمة الناشئة؛ لتتسلم القيادة من الأمم التي سبقتها، لتحمل راية التوحيد، وتنشر رسالة السماء وتتولى مسؤولية الدعوة لهذا الدين العظيم في مرحلة فارقة من تاريخ البشرية.
ولعل من العجيب أن تأتي عملية التسلم في وقت كانت فيه هذه الدعوة المباركة أضعف ما تكون في نظر البشر؛ حيث قَلّ المعين والنصير، وضاقت على الدعوة وقائدها ﷺ الأرضُ بما رحبت.
إلا أن هذا العجب يزول عند أصحاب العقيدة الصحيحة والإيمان الصادق، ممن يدركون ويعلمون علم اليقين أن للكون خالقًا مدبِّرا، وللدعوة ربًّا يحميها، أَمْرُه بين الكاف والنون، "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس: 82).
إخواني وأخواتي
ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة؛ فاليوم تعاني دعوتكم، التي تسير على هدي المصطفى ﷺ - بعد أن قلّ النصير والمعين - ما عانت منه في مرحلة الإسراء والمعراج، ويقف الدعاة إلى الله تتخطفهم القوى العالمية والإقليمية العاتية وكل المتربصين من كل حدب وصوب، فلا حول لهم ولا قوة إلا بالله رب العالمين، مالك كل شيء.
واليومَ وإنْ غابت عن الدعاة إلى الله معجزةُ الإسراء والمعراج بل والمعجزات التي اختص الله بها نبيه ﷺ وإخوانه المرسلين؛ إلا أنه من تدبير الله لهذه الأمة أنه تعالى بعث نبيَّها بكتاب أنزله من فوق سبع سماوات "لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ" (فصلت:42) ، فكان المعجزةَ الخالدةَ، والعلامةَ المضيئةَ التي يستضيء بها الدعاة كلما أحاطت بهم الخطوب وحاصرتهم المُلِمات؛ لتكون معجزة باقية مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد بقي لهذه الأمة – وفي مقدمتها الدعاة إلى الله – هذا الكتاب المعجِز، الذي يقودها إلى الحق، وينير لها الطريق، ويَنْفض عنها غبار اليأس والوهن، فإن تمسكت به عزّت وسادت، وإن تنكبت عنه ضلت وتخلفت، وهذا التمسك بكتاب الله تعالى والعمل به هو ما رفع أصحاب النبي ﷺ ورضي الله عنهم أجمعين، فكانوا النموذجَ الصادقَ للوحي الإلهيّ، أو كانوا كما كان نبيهم ﷺ "قرآنا يمشي على الأرض".
قال تعالى في كتابه الكريم:" الٓر ۚ كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ" (إبراهيم:1)، وقال عزّ مِن قائل: "فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى" (طه: 123)، وقال سبحانه: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم". (الإسراء).
إخواني وأخواتي
إن ما تمر به أمتنا من خطوب عظام وابتلاءات جسام خلال هذه المرحلة، خاصة بعد كارثة الزلزال المدمر الذي أصابنا في إخواننا في تركيا وسوريا وخلّف فاجعة كبرى، لَيَدفع بأصحاب الدعوة – كما كان عهدهم دائما – أن يستجيبوا لنداء الأُخُوّة الصادقة "إِنَّما المُؤْمِنون إِخْوَة" (الحجرات: 10)، ويمتثلوا لتوجيه نبيهم ﷺ
 "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّىّ" (أخرجه مسلم).
فكونوا أيها الإخوان على العهد مع ربكم - كما كنتم دائما – في طليعة مَن يستجيب لهذا النداء، وذلك الامر النبوي؛ ولْتَهُبّوا لنصرة إخوانكم، ومؤازرَتِهم في هذه الأوقات العصيبة، دعما ومساندة وبذلا لما في الوسع؛ لتلبية احتياجاتهم، واجتهدوا في الدعاء والابتهال إلى الله أن يرزق من قَضَوا في هذا الزلزال الفردوس الأعلى، وأن يمُنّ على ذويهم بالصبر الجميل، وأن يشفيَ الجرحى والمصابين، ويعوض الشعب التركيَّ والشعب السوريَّ خيرا عن هذه المحنة.
إخواني وأخواتي
ها هو كتاب الله بين أيدينا، معجزة خالدة باقية، يدلنا على طريق الخلاص من حالة الاستضعاف والاستكانة، التي وصلت إليها الأمة، ويبشرنا بأن الحق منتصر وإن قل أنصاره، والباطل مندحر وإن اجتمع عليه أهل الأرض.
فعلى أرض الواقع تأتي البشريات، قديما وحديثا، من أرض الإسراء والمعراج، أرض فلسطين والمسجد الأقصى الذي باركه الله وبارك ما حوله، حيث شهدت تلك البقعة المباركة تسلُّم المصطفى ﷺ قيادة الأمم، عندما صلى بالأنبياء إماما، لتكون لأمته الإمامة والقيادة.
ورغم ما تعرض له بيت المقدس وأكناف بيت المقدس من احتلال غاشم واعتداء سافر وانتهاكات صمَتَ عنها العالم وصمّ أذنه عنها، تأتينا هذه الأيام بشريات النصر من الأرض المباركة، بعودة الانتفاضة من جديد إلى الضفة الغربية وإلى مدينة القدس الشريف، فتشتعل جذوة الأمل في الخلاص من الاحتلال.
إن جماعة " الإخوان المسلمون " – كما هو عهدها وتاريخها مع فلسطين الحبيبة ، أرض الإسراء والمعراج – تشد على أيدي هؤلاء الرجال الذين يقدمون أرواحهم ودماءهم في سبيل تحرير الأرض، وحماية العرض واستخلاص أولى القبلتين وثالث الحرمين من أيدي المحتلين، فتحيةً لهؤلاء الرجال الشرفاء الذين يصدق فيهم قول الله تعالى: " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا" (الأحزاب: 23).
إخواني وأخواتي
هلمّوا إلى العمل، ولا تيأسوا من روح الله، ولا يغرنكم تقلب المجرمين في البلاد، واستطالة الباطل وأهله، فللحق قدم راسخة ومستقبل مشرق بإذن الله، فاستمسكوا بكتاب ربكم وبهدي نبيكم، وتمسكوا بثوابت دعوتكم وبيعكم الذي بايعتم به، ووحدوا كلمتكم تحت راية الشورى الملزمة التي ارتضتها الجماعة منهاجا لها، وشمِّروا عن سواعد الجِدّ بلا كلل ولا ملل، حينها ستكونوا على مقربة من وعد ربكم بالاستخلاف والنصر، وَفْقا لما جاء في قول الله تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا" (النور: 55)، ويقول تعالى: "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" (الصافات: 171 – 173).
والله أكبر ولله الحمد
أ.د محمود حسين
القائم بأعمال المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمون"
 الخميس 25 رجب 1444هـ، الموافق 16 فبراير 2023م