إن نقاء السريرة وإخلاص النية وصفاء النفس من أهم صفات الداعية الحق، ولا يجد القبول من الناس إلا بها، وقد كان الإمام الشهيد على قدر كبير من تلك الصفات النفسية الضرورية لكل إمام مجدد ونحاول في عجالة أن نعرض لبعضها :

1 - كان أبغض شيء إلي نفسه المدح والإطراء الشخصي :

عندما يسن إمام الدعاة إلى الله قانونًا فلا يسع أتباعه وحملة ألوية دعوته إلا السير على نفس النهج؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقنن لأمته عامة ولأهل الدعوة خاصة ذلك القانون العظيم " احثوا في وجه المداحين التراب " ذلك أنه كثيراً ما يكون نابعًا من النفاق، أو يكون دافعًا إلى غرور الممدوح وتكبره بعد أن يمتلئ إعجابه لنفسه .

وعلى نفس المنوال نسج الدعاة إلى الله ومنهم الإمام البنا فقد كان يبغض المدح الشخصي أيما بغض ويكرهه ، ويبدو ذلك واضحًا من خلال هذه المواقف :

" دعيت وأنا حديث عهد بدعوة الإخوان المسلمين إلى لقاء الإمام الشهيد حسن البنا في دمنهور .. كنت أتخيله شيخًا كبيراً له لحية طويلة وفي يده مسبحة طويلة ، ويضع على رأسه عمامة واسعة فوجئت بأنه " أفندي " يرتدي البدلة وله وجه باسم يستقطب الناس بالنكتة اللطيفة وكان معروفًا وقتها أن الأفندية معظمهم لا يصلون .

وقف الأستاذ أحمد السكري وكيل الجماعة – في ذلك الوقت – وألقى كلمة ثم قدم الأستاذ البنا بكلمات فيها الكثير من الإطراء قائلاً : " أيها الإخوان .. ها هو زعيمكم ومرشدكم ها هو قائد المسيرة ، نظرت إلى الأستاذ البنا فوجدته يرتجف ووجهه ممتقع ثم قام وأمسك بالميكروفون وقال : ما ماتت الدعوات إلا بسبب التفاف أصحابها حول الأشخاص؛ فإذا مات الشخص ماتت الدعوة .. وأنتم أيها الأحباب مبادئكم خالدة .. الله غايتكم، والرسول زعيمكم، والقرآن دستوركم، والجهاد سبيلكم، والموت في سبيل الله أسمى أمانيكم .. هذه المبادئ التي تلتفون حولها هي الباقية .. فمسح رحمه الله بهذه الكلمات كل الإطراءات التي قالها الأستاذ السكري .. وما رأيت إنسانًا بعده مسح إطراء قيل عنه كما فعل الإمام الشهيد وإنما يكتفي الناس بشكر من أثنى عليهم أو بقول: غفر الله لنا ولكم .

ويذكر الأستاذ أنور الجندي أن الإمام كان ينزعج من المدح في شخصه ويقول : " إنه أنزلني من فوق منصة الخطابة في أسيوط بشدة وعنف لأنني كنت ألقي قصيدة جاء فيها ذكره فغضب لذلك وقال : إما أن يقول شيئًا عن الدعوة وإلا فأنزلوه ، وقد فعلها مع كثير غيري من الإخوان وكنت أشعر بضجرهِ إذا حاول أحد من الإخوان أو من الناس أن يذكره بكلمة ثناء في قصيدة أو خطبة ، وكان يقول دائمًا : " تكلموا في الدعوة فهي باقية والأشخاص فانون " .

2 - التواضع والبعد عن العجب :

إن كان التواضع وخفض الجناح محبوبًا ومرغوبًا للمسلمين فهو للدعاة واجب ولازم لا غنى لهم عنه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان إمام الدعاة وقدوة المتواضعين فهو القائل : " طوبي لمن تواضع في غير منقصه، ولزم أهل الذل والمسكنة " حتى أن الجارية تلقاه صلى الله عليه وسلم في الطريق فتأخذ بيده تطوف به طرقات المدينة ما يمنعه من ذلك شيء ، ومن معينه صلى الله عليه وسلم قبس حملةُ لواء دعوته من بعده ، فكانوا به متأسين وعلى منواله ناسجين ومن هؤلاء كان مجدد دعوة الإسلام في هذا العصر الذي كادت أن توأد فيه دعوة الإسلام .

يذكر عبد الحكيم عابدين في مذكراته غير المنشورة : " بل أذكر مرة ومرات عديدة كان يكثر من التبرؤ بنفسه إلى الله عز وجل ، مثلاً في بعض المحاضرات يرى إقبال الناس والإخوان يأتون في محاضرات الثلاثاء هذه بدون دعوة من أقصى أطراف القاهرة ، وقد يمشي الواحد منهم أكثر من عشرة كيلو مترات على قدميه فكان هؤلاء الإخوان يحضرون دروس الثلاثاء وإذا نظر وراء هذه الكثرة الكاثرة وانتفاضها بالتكبير والتحميد عندما يتحدث ويكون في حديثه ما يروع ويعجب – وكل حديثه والحمد لله يروع ويعجب – كان لا يتردد في أن يقول : أيها الإخوان إنكم لتأتون من بقاع بعيدة ومن بلاد نائية وأنا أعلم أن فيكم من يأتي مشيًا على الأقدام وتأتون لتستفيدوا مني علمًا وتأخذوا عني خيراً ، والله لأعتقد في أعماق قلبي وشعوري بأن هناك في أواخر صفوفكم من لا تنظر إليهم عين ولا تصغي لهم أذن ، أناساً وشبابًا تدركني أنا بهم رحمة الله وأقترب إلى الله أنا بمحبتهم ، وأستمد الفيض والبركة من الله ومن قلوبهم ، فكان دائمًا حريصًا على هذه المعاني والفرار إلى الله عز وجل فراراً تامًا من أي معنى أو مادة أو مكسب أو فائدة من هذه الدعوة من علو أو تقدير ، ويعلن فراره من هذه إعلانًا يكسر أنف من يركبه الغرور وتجعل أعلى الناس فخاراً بمواهبه لا يشعر إلا أنه حفنة تراب أمام جبل أشم .

أما عن تواضعه رضي الله عنه فقد كان يجلس على الحصير إذا كان المجلس أرضًا وفي آخر الصفوف إذا اصطفت المقاعد للجلوس منكمشاً فلا يكاد يري متواضعًا فلا يكاد يعرف لولا ما ينم عنه من علم وفضل ونور ، يلبس في غالب أحيانه الجلباب العادي من أرخص الأقمشة والعباءة من فوقه والعمامة يشرق من تحتها جبين وضاء ووجه كله سماحة وذكاء .

3- التسامي عن المناصب والترفع عن المنن :

إن حب الرياسة خلق دنيوي ترابي لا يطمح إليه المحلقون في الآفاق الرحبة والأبراج العالية من النورانية والربانية والنعيم العظيم في الآخرة .

هذا إمام الدعاة الأول صلى الله عليه وسلم جاءه عتبة بن ربيعة ممثلاً قومه يعرض عليه أموراً :

" قل يا أبا الوليد أسمع .. قال يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاًً ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا .. " ، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة فصلت حتى انتهى إلى السجدة فيها ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك ، هكذا رفض رسول الله الملك الذي يلهث وراءه الناس .. وهو الأمر الذي كان الإمام البنا – رحمه الله – يتسامى عن طلبه والسعي إليه ، فقد كان يود أن يكون جنديًا من جنود الدعوة ويسلم قيادها إلى من يحمل عنه هذا العبء . وقد عرضه مرات ورغب من الإخوان عدة مرات أن يكون هو جنديًا متواضعًا يتلقى الأمر ممن يلي أمر الدعوة حين يجد من يلقي هذه الأوامر وكان يعني ذلك بجد لا بتحد وتعجيز بل برغبة صادقة حتى كان يقول : فرغوني أنا للعمل الخاص للدعوة اتركوا لي أنا الناس والشعب للتربية والتفقيه واختاروا لكم مرشداً عامًا يكون همه إدارة الدعوة وتصريف شئونها ويكون عملي مجرد داعية فقط ، لا أقيم في القاهرة إلا أيامًا قليلة أنقل لكم أخبار الأقاليم ، وسرحوني علي أجيال هذه الأمة وقراها وأصغر القرى فيها لأتولى التربية ، كانت هذه أمنيته وحرص عليها حتى إنه في أواخر أيامه رحمه الله قبل استشهاده بنحو سنة ونصف استطاع بعد مجهود أن يصل إلى صورة من هذه الصور ، وهو أن يوزع أعباء القيادة الفعلية على أعوانه الموثوقين على أن يكون هو فقط للسياسة العليا .

منقول بتصرف من كتاب "أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين " للأستاذ  جمعة أمين عبدالعزيز- رحمه الله