إسماعيل إبراهيم

﴿‌قُلْ ‌بِفَضْلِ ‌اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58]، صدر بحمد الله وفضله موسوعة الأعمال الكاملة للإمام يوسف القرضاوي رحمه الله. وقد طبعت في (105) مجلدات كبيرة الحجم، عظيمة الفائدة.

وقد تنوَّعت كتاباته ومؤلفاته رحمه الله بين العقيدة، وعلوم القرآن وتفسيره، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والفتاوى، والأخلاق والتصوف، والتاريخ والأدب، والصحوة وترشيدها، وغيرها من مؤلفات إسلامية عامة، شملت علوم الإسلام جميعًا، وهي شاهد من شواهد عدة تدلُّ على موسوعية الشيخ رحمه الله.

 وكتابات الشيخ رحمه الله - فضلًا عن كثرتها وتنوعها- تتميَّز بالوضوح والعمق، كما تتميز بمنهجها الوسطي الذي لا ينزع إلى غلو ولا تفريط، ويشهد بهذا القاصي والداني.

كان أول مجيئي إلى قطر عام 2009م للعمل في المكتب العلمي لفضيلة الشيخ رحمه الله؛ وكان الشيخ حينئذ مكبًّا على إعداد الطبعة الثانية من كتابه (فقه الجهاد). وقال الشيخ رحمه الله لي وللإخوة العاملين في مكتبه العلمي حينئذ: سنعمل إن شاء الله على جمع أعمالي العلمية في موسوعة، تضم كل أعمالي المكتوبة والمسموعة والمرئية.

ولعل سؤالًا يخطر على بال كثيرين: من الذي اقترح على سماحة الشيخ رحمه الله عمل جمع مؤلفاته في موسوعة أعماله الكاملة؟ غالب ظني أن هذا الأمر في فكر الشيخ رحمه الله منذ زمن طويل، ففي شبابه عكف مع الدكتور أحمد العسال على جمع تراث الشيخ شلتوت، رحم الله الجميع.

ولكن من طبع الشيخ رحمه الله السمح، وخلقه الكريم الدمث، وذوقه الرفيع: أنه حين يسمع قولًا من أحد، قد علمه قبل ذلك، أو اقتراحًا كان قد فكَّر فيه من قبل واستقر رأيه عليه: أن يظهر للمتكلم كأنه يسمع ذلك أول مرة! وكأن الشيخ رحمه الله يتمثل قول عطاء بن أبي رباح رحمه الله: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له؛ ‌كأن ‌لم ‌أسمعه ‌قط، وقد سمعته قبل أن يولد!

وقد قُسِّمت الموسوعة إلى ثلاثة عشر محورًا، وعند تقسيمها، سألنا الشيخ رحمه الله: بماذا نبدأ؟ أنبدأ بالفقه، أم بالعقيدة، أم بالتفسير؟ وبعد بحث ومشاورات، قال رحمه الله: نبدأ بمحور التعريف العام بالإسلام، وهو يشتمل على كتب: (مدخل لمعرفة الإسلام)، و(الإيمان والحياة)، و(الخصائص العامة للإسلام)، و(العبادة في الإسلام)، و(فقه الوسطية والتجديد)، و(ملامح المجتمع المسلم)، و(غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)، و(شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان)، و(ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق) ... إلى غير ذلك.

وأذكر أننا في أثناء طباعة كتاب (غير المسلمين في المجتمع المسلم) كان من طريقة الشيخ رحمه الله أنه يصدِّر كتبه: بآية من الدستور الإلهي للبشرية، وحديث من مشكاة النبوة.. وقد كتب فضيلة الشيخ حديث سهل بن حنيف، وقيس بن سعد قالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: «أليست نفسا»؟!

وكتب فضيلة الشيخ في إثر الحديث: بلى إنها نفس، ولكلِّ نفس في الإسلام حُرمة ومكانة.

فما أروع الموقف! وما أروع التفسير والتعليل!

لكن بعض الإخوة استبدله خطأً بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: مرَّت بنا جنازة، فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي. قال: «إذا رأيتم الجنازة، فقوموا». وبقي تعليق الشيخ على الحديث كما هو.

فلما طُبع الكتاب، قال: الشيخ: التعليق هنا ليس له معنى، وأنا إنما قصدت حديث سهل بن حنيف وقيس بن سعد.

ثم قال رحمه الله: إن شاء الله حين يدخل الكتاب في الموسوعة نصوبها! وعندما جاء دور الكتاب في الموسوعة بعد أربع سنوات أو يزيد، قال الشيخ رحمه الله: كان لي ملاحظة في هذا الكتاب! وذكَّرنا بها، وطلب منا أن نتأكد من تصويب الحديث كما أراد. وكم كانت ذاكرته قوية رحمه الله!

والمحور الثاني هو محور العقيدة، ويتكون من:(القضايا المبدئية والمصيرية الكبرى للإنسان ماذا أنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ ولِمَ؟) و(عقائد الإسلام)، و(أسماء الله الحسنى).. وغيرها.

أما المحور الثالث، فهو محور الفقه وأصوله، وهو أكبر المحاور؛ فهو يتكون من ثلاثين مجلدًا، وينقسم إلى عدة أقسام: فقه العبادات.. وبدأ بفقه العلم، على غير عادة عامة الفقهاء، إنما على طريقة الإمام الغزالي في كتاب الإحياء، ثم فقه العبادات: فقه الطهارة، وفقه الصلاة، وفقه الزكاة، وفقه الصوم، وفقه الحج. ثم فقه الأسرة والمجتمع، ثم فقه المعاملات المالية والاقتصاد الإسلامي، وفقه السياسة الشرعية، والفقه الجنائي في الإسلام، وفقه الآداب الشرعية.

ثم ألوان جديدة من الفقه، ويضم: فقه الأولويات، وأولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، والفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، وزراعة الأعضاء في الشريعة الإسلامية.

ثم أصول الفقه وملحقاته: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، والفتوى بين الانضباط والتسيب.. إلخ، ثم: فقه السلوك والأخلاق.

وقد كان فقه السلوك والأخلاق محورًا مستقلًّا، ثم رأى الشيخ ضمه لمحور الفقه، تأسيسًا على أن مفهوم الفقه في الاستخدام القرآني - كما بينه في كتابه فقه الأولويات – يتسع ليشمل فقه آيات الله في الكون، وسننه في الخلق والمجتمع. وإيمانًا منه بأن الثقافة الإسلامية وحدة متماسكة، يتصل بعضها ببعض.

وعلى كل حال فترتيب الموسوعة كان برأي الشيخ وإقراره بعد أخذ المقترحات في الاعتبار.

ثم كان المحور الرابع وهو الفتاوى، ويقع في ستة مجلدات، إضافة إلى مجلد خاص بفتاوى موجزة عن الحج والعمرة. وبذلك يكون محور الفقه والفتاوى ثلث الموسوعة تقريبًا. وذلك يشي بغلبة النزعة الفقهية على فضيلة الشيخ رحمه الله.

أما المحور الخامس، فهو التفسير وعلومه، وهو يحتوي على كتب: (كيف نتعامل مع القرآن)، و(الصبر في القرآن)، و(العلم والعقل في القرآن)؛ إضافة لتفسير جزئي: تبارك، وعم. وتفسير سور: الرعد، وإبراهيم، والحجر. و(دروس في التفسير) وهي الدروس التي ألقاها الشيخ رحمه الله في رمضان، بين ركعات صلاة التراويح، رتبت وفق ترتيب الآيات في المصحف، وأعيد صياغتها بإشراف الشيخ، وهي مجلدان، فيهما كل ما استطعنا أن نجمعه. ويوجد أشياء لم نقف عليها، مثل تفسير سورة يوسف، التي فسَّرها سماحة الشيخ رحمه الله كاملة في الجزائر، وسجل تفسيره لها كاملًا مسموعًا ومرئيًا، وللأسف لم يستطع الشيخ الوصول إلى هذه التسجيلات، وقد استفرغنا جهدنا في البحث عنها والتواصل مع من أمكننا التواصل به من الإخوة الجزائريين فلم نصل إليها.

وجاء المحور السادس عن السنة النبوية وعلومها وكيف نفهمها، وفيه: (مدخل لدراسة السنة)، و(كيف نتعامل مع السنة النبوية)، و(الرسول والعلم)، و(المنتقى من الترغيب والترهيب).

وفي هذا المحور إضافة جديدة، وهي كتاب الشيخ عن السيرة النبوية بعنوان: (الرسول محمد.. رحمة الله للعالمين)، وكان تأليف الشيخ له على طريقة الأستاذ العقاد في عبقرية محمد، فقسمه الشيخ إلى فصول هي: الرسول العابد، الرسول الزاهد، الرسول البليغ، الرسول المعلم، الرسول الأب والجد، الرسول المبعوث إلى العالم.. إلخ، وهو أحد الكتب الثلاثة التي تمنى الشيخ رحمه الله أن يكتبه قبل أن يموت، فتيسر له؛ ولم يتيسر أمر الكتابين الآخرين وهما: أصول الفقه، وتفسير مختصر على هامش المصحف، وكان الشيخ قد بدأه بتفسير جزء عم، ولكن توسع الشيخ في التفسير، فلم يعد يحتمله الهامش، فصدر تفسيرا تحليليا هو وجزء تبارك فقط.

والمحور السابع بعنوان: فقه الأمة ودعوتها وصحوتها وحركتها الإسلامية، وهو محور حافل بالحديث عن الصحوة الإسلامية وتقويم تجربتها، وطرح الحلول الإسلامية لمجتمعاتنا. ومن الكتب التي جاءت في هذا المحور: (الحل الإسلامي فريضة وضرورة)، و(بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين)، و(أعداء الحل الإسلامي)، و(الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا)، و(الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف)، و(الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي)، و(الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم)، و(الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد)، و(من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا)؛ إضافة إلى (ثقافة الداعية)، و(الوقت في حياة المسلم)، و(رسالة الأزهر)، إلخ.

والمحور الثامن يتعلق بالتاريخ القديم والمعيش، والتراجم الحديثة والقديمة، بدأ بكتاب (تاريخنا المفترى عليه)، ثم (إمام الحرمين الجويني بين الذهبي والسبكي)، ثم كانت كتب الشيخ الخاصة بشيوخه وأصدقائه، وفاء منه رحمه الله لشيوخه وتعريفًا بأصدقائه: المودودي، والغزالي، وأبي الحسن الندوي، والدكتور محمد عمارة، ثم كتابه الكبير (وداع الأعلام) وقد كان موت شيوخه وزملائه دافعا له أن يمسك بالقلم ليودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، يبين فيها فضلهم، وينوه بمكانتهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم. وهو يتكون من (1021) صفحة، ترجم فيه لـ (82) شخصية من شيوخه وتلاميذه وأصحابه.

وجاء المحور التاسع عن الشعر والأدب والحوار، ويتضمن هذا المحور: ديوانيه: نفحات ولفحات، والمسلمون قادمون، ثم مذكراته التي سماها ابن القرية والكتاب. وهي أربعة مجلدات، انتهت إلى سنة 1995م. وللأسف لم يكملها الشيخ رحمه الله، فإنه يوجد بعد هذه الفترة أحداث مهمة منها: انطلاق قناة الجزيرة، وبرنامج الشريعة والحياة، وتأسيس المجلس الأوربي للإفتاء، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وغزو العراق وإعدام صدام... إلخ، وإن كان كلام الشيخ رحمه الله على هذه الأحداث موجودًا في الخطب واللقاءات والحوارات، لكن حُرِمنا من تعليقات الشيخ رحمه الله وتقييماته لكل حدث كما في المذكرات، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل.

وشمل هذا المحور أول مؤلفات الشيخ رحمه الله (مسرحية يوسف الصديق)، ألفها وهو في السادسة عشرة من عمره، وكانت مفقودة، ووجدنا جزءا منها في حياة الشيخ رحمه الله، ثم بعد وفاة الشيخ رحمه الله أعادها أحد تلاميذ الشيخ، وكانت هذه النسخة الوحيدة قد استعيرت من قديم، وبها نقص يسير في آخرها، لعله يقدر بحوالي صفحتين أو ثلاثة.

والمحور العاشر: نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام، وهي شرح كامل للأصول العشرين للإمام حسن البنا رحمه الله، وإن كان قد وزع بعضها على محاور أخرى مثل: كتاب (فصول في العقيدة)، و(قضية التكفير) فقد نقلا إلى محور العقيدة، وكتاب (المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة) في محور أصول الفقه.

أما المحور الحادي عشر، فهو يضم الخطب المنبرية للشيخ، وهو يضم (25) جزءًا، ومجموعه (500) خطبة. ويقع هذا المحور في (13) مجلدًا، وأنبه القارئ على أنه أقرب إلى المستحيل جمع ما ألقاه الشيخ من خطب على مدار أزيد من نصف قرن، في البلاد المختلفة، منذ كان يخطب في مساجد قريته، ثم في المحلة الكبرى في مسجد آل طه، ثم في مسجد الزمالك بعد العدوان الثلاثي سنة 1956م. غير أن ما جُمع يعكس بوضوح طريقة الشيخ رحمه الله الخطابية، وموضوعاته المختلفة، وحضور الأمة الإسلامية وقضاياها في كل خطبه، وجرأة الشيخ في الحق، وتعليقة على الأحداث. لذا نرجو ممن لديه شيء من الخطب أو المحاضرات في شتى البلدان أن يوافي مكتب فضيلة الشيخ بها.

والمحور الثاني عشر: المحاضرات والكلمات، ويتكون من ثمانية مجلدات، بها (171) محاضرة، و(42) كلمة. وأظن أيضًا أن هناك محاضرات لم تصل إلينا، ولكن ما في الموسوعة يعكس طريقة الشيخ رحمه الله وتناوله للموضوعات المختلفة، في التفسير والحديث والفقه والثقافة العامة ...إلخ

أما المحور الثالث عشر والأخير، فهو رسائل ترشيد الصحوة، ويتكون من (المبشرات بانتصار الإسلام)، و(مستقبل الأصولية الإسلامية)، و(مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب والفرق الإسلامية)، و(وقفات مع الشيعة الاثني عشرية).

والشيخ رحمه الله كان لا يمل من الاشتغال بالعلم على كبر سنه! وتلك الظاهرة العجيبة كانت تدهشنا جميعًا، وخاصة أننا جميعًا يصيبنا التعب والإرهاق، فنتوقف ونستريح؛ لكنه رحمه الله لم يكن يعرف معنى التوقف؛ فكان يعمل رحمه الله في كل أوقاته؛ يعمل ليل نهار! سفرًا وإقامة، لا يعرف عطلة أو استراحة، وظل كذلك حتى أصيب رحمه بفيروس كورونا في رمضان 1442ه. الموافق أبريل 2021م.

وهو بطبعه في أمر التأليف والكتابة يطلب الأحسن، ويحقق ويدقق، ويراجع أكثر من مرة! فكان أحدنا يدخل إلى الشيخ بالملف الذي يقوم على طباعته أو تخريج أحاديثه وتوثيق نصوصه، أو مراجعته بعد الكتابة أكثر من مرة، ويظل الكتاب يتردد بين فضيلة الشيخ ومساعديه؛ حتى يبلغ الكتاب من الإتقان القدر المُرضي للشيخ. ثم يعاد طباعة الكتاب مرة أخرى، فينظر الشيخ رحمه الله فيه نظرات قبل أن يُدفع إلى دار النشر!

وموسوعة الأعمال الكاملة لفضيلة الشيخ القرضاوي رحمه الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

 القسم الأول: كتب قديمة طُبعت من قبل، وهي معظم كتب الموسوعة.

والقسم الثاني: كُتبٌ كانت عند الشيخ رحمه الله قيد التأليف، بعضها كُتب منه 90%، وبعضها كُتب نصفه، وبعضها كُتب ربعه. وكان الشيخ رحمه الله كثيرًا ما يقول: بعض الناس يرسل إليَّ ويقول لي: أنت وعدت بإخراج وتأليف كتاب كذا، وكتاب كذا، من خمسة عشر عاما، أو من عشرين عاما؛ فأين هي؟ ألا تخاف أن تلقى الله ولم تحقق ما أردت من إتمام كتبك؟!

ومن حرص الشيخ على نشر العلم أنه كان قد أوصانا قبل أن يتمها، إذا مت قبل أن أتم هذه الأعمال: فما بقي من تراثي مكتوبا لم ينشر؛ لأنه لم يكتمل، أن تنشروا الصالح منه للنشر منه كما هو، ويُضم المتشابه منه بعضه إلى بعض، أو يكمله المكتب العلمي على مسؤوليته، ويُبيَّن ذلك. وقد أنعم الله على فضيلة الشيخ فأتم هذه الكتب في حياته والحمد لله.
والقسم الثالث: كان نتاج جمع لتراث الشيخ المرئي والمسموع؛ من محاضرات، وخطب، ودروس في التفسير، ودروس في الحديث، وبرامج وفتاوى.

ولعل هذا يجعلنا نتطرق إلى عمل أعضاء المكتب في الموسوعة مع فضيلة الشيخ رحمه الله، فقد كان عملنا فيها نسخ الكتب من المطبوع إلى صيغة (وورد) في الكومبيوتر، ثم مطابقة ما نسخ على الكتاب المطبوع، وبعد ذلك المراجعة والتصحيح اللغوي، وتخريج الأحاديث على طريقة الشيخ الجديدة، التي اهتمت بعزو الأحاديث إلى مصادرها الأصيلة، مع نقل الحكم على الحديث من أقوال المتقدمين من المُحَدِّثين، أو الثقات من المحققين المُحْدَثين كالشيخ شعيب الأرناؤوط، والشيخ الألباني رحمهما الله. وكذلك توثيق النصوص من المصادر الأصلية دون المصادر الوسيطة، فقد طُبعت وحُققت كتب كثيرة لم تكن طبعت من قبل؛ مما أعاننا على التوثيق من المصدر الأصلي.

كما كنا نقوم على كتابة المواد الصوتية والمرئية، وتحويلها من الصيغة المسموعة إلى صيغة مقروءة، مع تغيير بعض الألفاظ العامية إلى الفصحى، مع ترقيم الآيات، وتخريج الأحاديث والآثار، وتوثيق النقول العلمية، ووضع العناوين الجانبية التي تدل القارئ على المضمون.

وقد راجع فضيلة الشيخ هذا العمل، وأضاف إليه وحذف، وعدَّل بما يتراءى له.

ومما تتميز به الموسوعة أن الرسائل الصغيرة التي طُبعت من قبل، ضُمت إلى كتاب أكبر من كتب الشيخ الحديثة مثل: رسالة (دية المرأة) ورسالة (الردة) فقد دخلتا ضمن كتاب الفقه الجنائي.

كما تم تقسيم أجزاء كتاب (تيسير الفقه للمسلم المعاصر)، إلى ثلاثة أجزاء.. أضيف الجزء الأول والثاني: (نحو فقه ميسر معاصر)، و (فقه العلم) إلى فقه العبادات من محور الفقه. وأضيف الجزء الثالث (في أصول الفقه الميسر)، إلى أصول الفقه.

كما أن الفتاوى التي تغير رأي الشيخ فيها، قد نبه الشيخ رحمه الله على تغير موقفه في صدر الفتوى: أن رأي الشيخ كان كذا.. ورجع عنه! أو يُنَبَّه في الهامش على الرأي السابق منهما ورأيه الأخير. 

وقد كان ديدن الشيخ رحمه الله من قديم، إذا أتم كتابًا وأعده للنشر أن يدفعه إلى من يحسن به الظن من شيوخه وأقرانه وتلاميذه في هذا التخصص؛ ليطلع عليه، لعله يجد عنده ما يُستفاد منه! فإذا وُجِدَت ملاحظات، نظر فيها الشيخ رحمه الله بصدر رحب، يقبل ما شاء منها، ويترك ما شاء.

وقد ذكر لنا فضيلة الشيخ أنه دفع كتابه (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) للشيخ الغزالي رحمه الله، الذي راجعه قبل الطبع، واختار له هذا الاسم.

وأذكر مرة أنه دفع كتابًا لأحدهم؛ فذكر عليه بعض الملاحظات، ولكن الشيخ لم يرَ فيها كبير فائدة؛ فأعرض عنها بالكلية؛ ولكنه لم يُظهر ذلك له حفاظا على المودة، ونوعًا من الذوق في المعاملة.

وأذكر عندما طُبع كتاب فقه الجهاد الطبعة الأولى، كان أحد الإخوة في جامعة عربية معروفة، له بعض الملاحظات على الكتاب، ولكن كان بها شدة وغلظة، وقد طلب هذا الأخ من مدير مكتب الشيخ أن يهذب هذه الملاحظات قبل أن يطلع الشيخ رحمه الله عليها، وقال: إني أعرابي! لكن مدير مكتب الشيخ نسي أن يقوم بذلك! ولما سألنا الشيخ عن الملاحظات قال: الملاحظات قيمة؛ ولكن الأسلوب يحتاج إلى تهذيب! وبعد ذلك طلب زيارة الشيخ رحمه الله، فاستقبله الشيخ ورحب به وشكره على ملاحظاته.

والشيخ رحمه الله صاحب وفاء وخُلُق كريم مع من يعمل معه، فهو من قديم يشكر من عمل معه في كتاب ويذكر عمله، ويبين ما قام به من عمل معه في هذا الكتاب، وفي مقدمة الموسوعة شكر كل أعضاء المكتب السابقين والحاليين.

رحم الله الشيخ القرضاوي رحمة واسعة، وتقبله في الصالحين، وغفر له، وجزاه عن الأمة خير ما يجزي علماءه العاملين، وعباده الصالحين، وأن يجعل هذه الموسوعة من العلم الذي ينتفع به، وأن يكون صدقة جارية للشيخ؛ كما في الحديث: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».