أشرف شعبان الفار

ما أجمل أن نستقبل رمضان بالتوبة! وما أحق رمضان منا بتوبة صادقة! وما أحوجنا لهذه التوبة النصوح، نغسل بها أدراننا، ونخرج بها من وهدات الجنايات، وحر السيئات، ووحشة الرهق والحرمان إلى روضات المغفرة ونعيم الطاعات وأنس القرب وجنات الرضوان، نفر بها من الله- سبحانه- إليه، نطلب عظيم كرمه وواسع فضله وإحسانه، نمرغ أنوفنا العاصية على عتبات الذل له وحده، نطلب أن يرحم ضعفنا ويجبر كسرنا، ويستر عيبنا، نسأله أن يعاملنا بما هو أهله، هو أهل التقوى وأهل المغفرة.

لقد أمرنا الله بالتوبة: {وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} هكذا (جميعًا)، كلنا نحتاج إلى التوبة، وكلنا مأمورون بالتوبة، فالموفق من أطاع الله ربه، وتقرب إليه بما أمر، والموفق هو من يقتنص الفرص الثمينة، ولا يفرط في شيء منها. فالتوبة من صفات المؤمنين الأتقياء، وقائدهم وسيدهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول فيما يروي أبو هريرة- رضي الله عنه في البخارى، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: {والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة}.

فالتوبة منزلة شريفة عليّة، من بلغها فقد بلغ الخير كله، يقول ابن القيم - رحمه الله - عن التوبة: "وهي أول منازل السائرين إلى ربهم، وأوسطها، وآخرها" وما أروع أن يستحضر المؤمن جميل وعد الله لعباده التائبين في سورة الفرقان: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَٰلِحًا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَٰتٍۢ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} نعم يبدل الله سيئاتهم حسنات! حينها يحلو لنا جميعًا أن نتعرض لرحمات الله، وأن نفرغ أوعيتنا، ونهيئها لننهل من كريم عطائه.

وإن كنا حقًا نبتغي أن نصل إلى أعلى الدرجات، فعلينا أن نتوب إلى الله- عز وجل- بإحسان وإتقان، فكثيرًا ما تتحول التوبة على أيدينا إلى كلمات ميتة، لا روح فيها، ولا صدق، ولا همة! فالتوبة في أصلها إعلان المرء عن تغيير في حياته، إعلان عن خطئه واعتراف وإقرار به، ثم عزم أكيد صادق على أن لا يعود إلى خطئه وذنبه ذلك، وتلك هي حقيقة التوبة، فما أسرع النسيان إليها، وما أيسر هدمها من أساسها! فإذا سألت أحد التائبين: مم تتوب؟ فقليل من يستطيع الجواب! إننا نتوب بلا وعي، نتوب كأننا نؤدى واجبًا اجتماعيًا أداءًا روتينيًا، وكأننا نتعبد بعبادة توارثناها من دون فهم، أو كأننا نردد أذكارًا وتعاويذ، نرددها بغفلة عجيبة.

إن التوبة الصادقة كفيلة بأن تغير حياة الإنسان؛ ولذلك علق الله عليها الفلاح {فتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}، وهذا ما يجب علينا التركيز عليه، والانتباه له، والحرص عليه، والإحسان فيه، أن نتوب إلى الله حق التوبة، أن نتوب تلك التوبة التى يبدل الله بعدها سيئاتنا حسنات، فكيف نصل إلى تلك التوبة؟

إن أول شروط التوبة -كما يعلم الجميع- الاعتراف بالذنب، أن يعلم الإنسان نقيصته، أن يرى عيبه، أن يعترف ويقر بما يأتيه من ذنوب، وحتى يصل إلى هذا عليه أن يحاسب نفسه، ويراجع أعماله كلها، ما فعل وما لم يفعل، ما قال وما سكت عن قوله، وأن يراجع أثر كل ذلك، فلربما نتج عنه شئ يخشاه إن لقي ربه. هذه المراجعة وذلك الاعتراف، ورؤية الذنوب هي الخطوة الأولى، وليست سهلة، لا سيما إن غلبت الغفلة.    

أما الخطوة الثانية فشعور حقيقي صادق، يطلع الله عليه، شعور بالألم والحسرة، شعور بالندم، شعور بالخوف من الله، وإحساس يليق بمن أذنب في حق الله، وهي فعل قلبي بالدرجة الأولى، لا تتطلب كلامًا، ولا تستدعي أفعالًا، بل هو قلب نادم يرى تقصيره وخسارته، وينظر الله إليه فيرى صدق الندم، ويرى الرغبة في التوبة، إنه الأثر الطبيعي الذى يجده الخاسر حين يتبين خسارته، أو الخائف حين يقع ما يتهدده.

أما الخطوة الثالثة فعزم صادق، عزم على التطهر من الخبث، عزم على النجاة من الغضب، عزم على تغيير العوج، وإزالة العيب، وإصلاح ما يجب إصلاحه، عزم على الاستقامة والاجتهاد في إرضاء الله- سبحانه- والتقرب إليه بما يحب. ومعلوم أن رد المظالم شرط في التوبة من حقوق العباد. 

هكذا تغسل التوبة صاحبها، تغسل قلبه، ونفسه، تغمسه في رؤية حقيقة تقصيره، ورؤية حق الله عليه، تغمسه في شعور حاجته إلى مولاه، وضرورة إرضائه- سبحانه، وضرورة طلب عفوه ورحمته. التوبة النصوح علاج القلوب والنفوس، ولذلك لا عجب أن رسولنا العظيم- صلى الله عليه وسلم- كان يتوب إلى الله في اليوم مرات ومرات. إنها عبادة، وفيها لذة العبادة، وأنس العبادة، وحلاوة العبادة، وشرف العبادة، وسكينة العبادة.

فإن أحسن العبد توبته قبل رمضان، فاستقبل رمضان المبارك بتوبة نصوح، اجتمع له من الفضل والبركات ما على مثله يتنافس المتنافسون، ورجا من الله الخير المضاعف، ويكون قد اجتهد وأحسن استقبال رمضان، والظن به- سبحانه- أنه لا يرد عن بابه صادقًا، ولا يخيب سعي ساعٍ، ولا يعجزه عطاء، ولا تنفد خزائنه.