عبد الحي إبراهيم سليمان

 

بقلم: وصفي عاشور أبو زيد*

الإيمان العميق، والفهم الواعي، والجهاد المستمر، والعمل المتواصل، والإخلاص والتجرد، والانضباط والانتظام، والدقة في المواعيد، والتفاني في العمل، والولاء والانتماء، والصبر والاحتساب، والثبات حتى الممات- صفات مقدورة لو اتصف فردٌ بصفة واحدة منها لكان له في الإسلام شأن- أي شأن- وفي أي دعوةٍ من الدعوات، فضلاً عن دعوة الإخوان المسلمين، فكيف بمن جمع كل هذه الصفات وبرع فيها كما لم تجتمع لأحد وكما لم يبرع فيها أحد من قبل، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم؟؟!

 

إنه الأستاذ الحاج عبد الحي إبراهيم سليمان تركي، أحد رجالات الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين، والذي تمر بنا ذكراه الأولى؛ حيث ودَّعه الإخوان يوم الأربعاء 25/1/2006م الموافق 25/12/1426هـ، ودُفن بحي البساتين بالقاهرة.

 

بطاقة حياة

وُلد الحاج عبد الحي إبراهيم عام 1929م بقرية شبرا خلفون مركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية لأسرة ريفية تتكون من سبعة أولاد: أربعة ذكور، وثلاث إناث، وكان والده يعمل بمهنة الزراعة، ثم انتقل إلى محافظة الجيزة مركز إمبابة، وعمل بهيئة المطابع الأميرية، وتزوج عام 1975م بعد خروجه من السجن، حيث كان يبلغ من العمر 46 عامًا، مثله في ذلك مثل أبناء جيله الذين عاشوا محنة السجون والمعتقلات، ورزقه الله تعالى- برغم بلوغه هذه السن- ستة من الأبناء: أربع بنات وولدين، مات الولدان وإحدى البنات في حياته، وبقي ثلاث (هدى ورقية وصفاء) تزوجن كلهن في حياته، كما حج بيت الله مرتين، وبعد أن أحيل للتقاعد التحق بدار الطباعة والنشر بالقاهرة، وهي الدار التي فيها تطبع منشورات دار التوزيع والنشر الإسلامية، وترك العمل بها في أواخر التسعينيات ليتفرغ للدعوة تفرغًا كاملاً.

 

مشوار الدعوة

 الصورة غير متاحة

بين بناته الثلاثة

بعد أن انتقل الحاج عبد الحي إلى الجيزة في مركز إمبابة تعرَّف على شعبة الإخوان المسلمين هناك، وظل يتردد عليها كل وقت حتى التحق بإحدى شعب الإخوان بمنطقة العصارة بإمبابة، ثم تطوع في كتائب الإخوان الجهادية إبان حرب 1948م، وكم كان سعيدًا بهذا التطوع؛ لأن حلم الشهادة في سبيل الله ظلَّ يتراءى له، وكان يراوده طول حياته، وكم كان يبكي بعد خروجه من السجن أنه لم يمت شهيدًا، غير أنه لأسبابٍ "ما" لم يلتحق بكتائب المجاهدين التي تطوَّع فيها، والتحق بالنظام الخاص للإخوان بعد ذلك، والذي كان الهدف من نشأته مقاومة الاحتلال البريطاني في مصر، وكم شهدت أرض القناة بطولات وشهداء للإخوان المسلمين أيام الاحتلال.

 

وبعد خروجه من السجن لم يتوانَ لحظةً واحدةً عن دعوته، بل كان ليله ونهاره، غدوه ورواحه، حركاته وسكناته، صمته وكلامه من أجل دعوة الإخوان المسلمين؛ حيث طوف محافظات مصر ملتقيًا بكتائب ومعسكرات ولقاءات الإخوان المختلفة يحكي لهم أحداث ذلكم التاريخ الأسود الذي شهد من الانتهاكات الصارخة وتعذيب الإنسان لأخيه الإنسان ما لم يكد يمر بفترة من فترات التاريخ، والذي سيظل لعنةً على طغاته وجبابرته الذين لم يخشوا خالقًا ولم يرحموا مخلوقًا.

 

رحلة السجون وأشكال التعذيب

بدأت رحلة السجون مع الأستاذ عبد الحي حين اختطف من مقر عمله يوم 5/11/1954م- بعد حادث المنشية بعشرة أيام تقريبًا- إلى مباحث الدقي قسم أول جيزة، ثم تمَّ ترحيله في اليوم السادس من الشهر نفسه إلى سجن مصر، ثم اليوم السابع إلى مذبحة القلعة، يقول في مذكراته غير المنشورة: "وفي مذبحة القلعة تمَّ وضعي في الماء بعد تجريدي من ملابسي، وظللت 24 ساعةً في الماء داخل زنزانة صُمِّمت وخُصصت لذلك، وبعد أن تجمدتْ أطرافُ جسدي كلِّه ألبسوني (طاقية) تُربط على العنق حتى لا أرى شيئًا ثم أُضرب بالشوم والسياط حتى أفقد الوعي".

 

 

وفي يوم 9/11/1954م نُقل إلى السجن الحربي، ثم تمَّ ترحيله إلى مجلس قيادة الثورة من المغرب حتى الفجر، ثم إلى السجن الحربي في اليوم نفسه، وظلوا معه هكذا من السجن الحربي إلى قيادة الثورة ثلاث مرات أو أربعة حتى يوم 12/11/ 1954م حيث نُقل إلى مذبحة القلعة مرةً ثانيةً ليذوق هناك صنوف العذاب، ثم إلى الحربي، وكل هذا يتخلله تعذيب مستمر في مكاتب تلك الأماكن حتى يوم 17/11/1954م.

 

ويذكر الحاج عبد الحي- يرحمه الله- بعض ألوان ذلك التعذيب المستمر في مذكراته غير المنشورة، فيقول: "التعليق في سقف الزنزانة والضرب بالسياط، والوضع في الماء، والوضع في بالوعة المجاري، والمد والضرب على الأرجل (الفلكة) وتجريدي من الملابس ودهان جسمي بمادة الشحم ثم إشعال النار في جسدي، ووضع الشومة في دبري، ومنع الطعام عني، ومنعي من قضاء الحاجة، وظل الحال هكذا حتى يوم 9/12/1954م، كل هذا يقوم به ضباط متخصصون في التعذيب".

 

حتى كان يوم 7/12 وتسلم الادعاء، وبعدها بيومين كانت المحاكمة، ثم كان النطق بالحكم يوم 12/12/1954م عشر سنوات مع الأشغال الشاقة، وفي اليوم نفسه نقل إلى سجن (3) الحربي، وفي يوم 16/12 نقل إلى سجن ليمان طرة، حيث وضعت جنازير حديدية في قدمه وتم "برشمة" قدميه بها، وفي يوم 6/1/ 1955 نقل إلى عنبر (4)- عنبر الجبل- ليزاول الأعمال الشاقة.

 

 

اضغط على الصورة للتكبير

ومن تفصيل هذه المشاهد كان يحكي- يرحمه الله- أنهم كانوا يدخلون عليه كلابًا مسعورة، يصعد أحدها بإشارةٍ من خبراء التعذيب ويضع قدميه الأماميتين على كتف الرجل، ووجه الكلب في فم السجين، ثم يأمره السجان أن يعترف أو يؤيد رجال النظام ورئيس البلاد فيرفض، فيعطي للكلب إشارةً أخرى يفهمها ليغرس أظفاره في كتفه فإن رفض أعطاه إشارةً أخرى لينزل بأظفاره مع اللحم حتى أسفل الجسد.

 

ومن ذلك أيضًا أن جسده- وغيره من سجناء الرأي معه- علاه الصديد والقيح من شدة التعذيب وطوله، حتى كان السوط ينزل على جسده فتتناثر قطع الجلد على حوائط السجن، ويحملوه بهذه الهيئة ليلقوه في مياه المجاري ليلقى حتفه فيها، لكن الله يقدر برحمته- وكم من محنةٍ تحمل في طيها منحة- أن يكون في هذه المجاري شفاءٌ لجروح أجسادهم.

 

ومن الكرامات التي أجراها الله لهم أنه أنطق لهم حوائط السجن، ومَن دخل السجن الحربي وقتها يعرف كم هي سميكة، فكان إذا استشهد أحدهم تخابروا به عن طريق الحوائط، فينادي بعضهم على بعضٍ بصوتٍ خافت فينصت له الآخر في زنزانة مجاورة ويسمع صوته ليعرف نبأ استشهاد فلان، وما أكد لديه ذلك أنه بعد زواجه وإنجابه، وبلغت كبرى بناته سن الصبا، تركها في حجرة وذهب هو لحجرة مجاورة وناداها من الحائط فلم تسمع، مع أن الحائط قائم على نصف "طوبة" من "الطوب" الأحمر المصري.

 

 

ونُقل بعد ذلك مع سجناء الرأي من الإخوان لسجن قنا ثم إلى سجن الواحات الذي تعمَّد النظام أن ينفيهم هناك في الصحراء ليتخلص منهم؛ حيث ليس في المكان أدنى علامات الحياة ولا الأحياء، ولكن رحمة الله تعالى كانت أقرب إليهم من ظنون هؤلاء القوم، فنصبوا خيامهم، وربوا الطيور، وزرعوا الأرض، فأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيج.

 

ويقسم الحاج عبد الحي قسمًا مغلظًا أن أشدَّ ما حدث للصحابة في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أيدي كفار مكة كان يذوقه هو وإخوانه أضعافًا مضاعفة، ويقسم نفس القسم المغلظ أن الله تعالى سيكون أرحم يوم القيامة بمَن كفروا به من هؤلاء بهم.

 

وعايش الأستاذ عبد الحي مرشدي الجماعة جميعًا في السجن خلا الإمام حسن البنا الذي رآه قليلاً؛ حيث عايش الهضيبي الأب والتلمساني وأبا النصر ومشهور والهضيبي الابن وعاكف، كل هؤلاء وغيرهم عايشهم وعاصرهم وعاشرهم، وكان يحكي عن كلِّ واحدٍ منهم: صفاته وأخلاقه وسلوكه ما يُحَبِّر كتابًا، وبخاصة عن حسن الهضيبي وعمر التلمساني.

 

وبعد أن قضى فقيد الإخوان عشر سنوات في هذا الجو، وخرج من السجن تمَّ اعتقاله عام 1965م ليقضي في السجن حتى بداية عهد السادات، ويظل بعدها مطاردًا لمدة خمس سنوات أخرى.

 

صفات إيمانية ودعوية

مع كبر سنه- رحمه الله- كانت حياته كلها دروسًا في الدعوة والحركة والإيمان، فلم تكد تمر ليلة دون أن يستيقظ قبل الفجر بوقتٍ كافٍ ليَصُفَّ قدمَه الكليلة بين يدي الله، ويصلي ويدعو ويبتهل إلى مولاه، ويوقظ أهله، وكانت تلاوة كتاب الله- الذي حفظه في صباه- دائمًا أنيسه وهِجِّيراه، وذكرُ الله تعالى لا يفارق شفتيه.

 

ومن الدروس المهمة في حياته وما يستوقف النظر: ثباتُه الراسخ كل هذه الفترة ومع كل هذا التعذيب الذي لم يكن يقص على الإخوان بعضًا من صوره إلا أخذ في بكاءٍ طويلٍ ويُبكي من حوله قائلاً: "والله لا أبكي على ما حدث لي، ولكني أبكي خوفًا من أن أُفْتن في ديني وأموت بعيدًا عن هذه الدعوة المباركة".

 

 

ومن ثباته أنه كان يرفض الأخذ بالرخصة (يكتب كلمة تأييد للنظام ويخرج من السجن) رفض ذلك، وكان يرى الأخذ بالعزيمة هو واجب الوقت الذي لا يجوز للإخوان أن يتحولوا عنه إلى غيره.

 

ومن صموده وشموخه- يرحمه الله- أنه كان قد عقد على إحدى البنات قبل إيداعه السجن، فلما سُجن وحُكم عليه بعشر سنوات مع الأشغال الشاقة، وعلمت زوجته بمسألة التأييد ورفضه له، قالت له: وماذا لو أيَّدت وخرجت من السجن ليتم لنا الزواج، ونحيا كما يحيا الناس، فأبى أن يبيع مبدأه وفكره بزيجةٍ من الزيجات، أو أن تكون هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها.

 

مات أبوه وهو مسجون فصبر واحتسبه عند الله، ثم جاءته أمه- كبيرة السن- تزوره وترجوه أن يخرج لتراه بجوارها سالمًا ولو يومًا واحدًا قبل أن تموت، فقال لها: "إن موتك وأنا مسجون يضاعف لَكِ الأجر عند الله"، فماتت هي الأخرى، وهو في السجن ثابت على مبدئه صامد أمام الجبارين، ومات ولداه وإحدى البنات بعد ذلك فدفنهم بيده واحتسبهم عند الله تعالى، هكذا كان ثباته وصبره واحتسابه ما يحدث له عند الله.

 

ومن ثباته وصموده العجيبين أنه حين خرج من السجن بعد سنوات الاعتقال الأخيرة مُنع من عمله، وساومه رجال الأمن أن يرجع إلى عمله على أن يترك الدعوة، فأبى ذلك كل الإباء، وآثر أن يعيش يومه برغيف خبز واحد، يأكل نصفه في الصباح مع كوبٍ من الشاي، والنصف الآخر في المساء مع كوبٍ آخر، وذلك لمدة عامٍ كامل، حتى عاد إلى عمله رغمًا عنهم.

 

ومن دروس حياته التي تسترعي الانتباه وتوجب الاقتداء والامتثال: أنه لم يكن يتوانى أو يتكاسل عن العمل الدعوي بالرغم من سنه المتقدمة ومرضه الشديد، فكان لا يرد طالبًا، ولا يتأخر عن موعد، فطوَّف محافظات مصر ومدنها وقراها داعيًا ومبلغًا وموَرِّثا هذا التاريخ الدموي الوحشي الذي سيظل لعنة على حكامه، وشاهدًا على قمة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان بما لم يكد يشهده التاريخ في فترة من فتراته.

 

ومن دروس حياته الرائعة: انضباطه الحركي، وحسه الأمني النادر، وحرصه على الوقت، ونصحه الشديد والأمين لإخوانه حرصًا وخوفًا على المصلحة العليا للدعوة، فكان لا يعجبه العوج، ولا يتستر على خطأ، بل كان يصحح ويعدِّل، ويواجه أهل الأخطاء بأخطائهم؛ لأنه أخلص حياته لله فأخلصه الله لدينه.

 

صفات إنسانية

كان فقيد الإخوان الحاج عبد الحي إبراهيم سليمان يتمتع بصفاتٍ إنسانيةٍ عالية جعلت مَن يعرفونه يحبونه ويلتفون حوله سواء أكانوا صغارًا أم كبارًا، أطفالاً أم شيوخًا أم شبابًا.

 الصورة غير متاحة

في رحلة إخوانية على يسار الحاج محمود الجوهري

 

فلم يُهِنْ زوجته يومًا، بل كان يقضي لها بنفسه كل ما تريد، وكان دائمًا في مهنة أهله كما هي سنة النبي- صلى الله عليه وسلم-، وكان يحمل قطع الحلوى دائمًا يهديها للأطفال من حوله.

 

وأشهد أنني لم أرَ أبًا عطوفًا على أبنائه كما كان هو معهم؛ حيث ربَّاهم تربيةً إسلاميةً صحيحة، ونشأهم على مبادئ الإسلام وأركان الإيمان ومكارم الأخلاق.

 

وتعدَّتْ رحمتُه وعطفه من أبنائه إلى أحفاده، حيث ترك خمسةً من الأحفاد: ثلاثة ذكور وبنتين، لم يسمع بكاء أحدهم إلا تحرَّك له قلبه، وطار إليه على بعد المسافات، بالرغم من كبر سنه وضعف صحته، فكان يحب أحفاده حبه لأولاده وأكثر، ويود أن لو كانوا حوله دائمًا.

 

لم يتشدد يومًا مع أصهاره الذين تشرفوا- وأنا منهم- بمصاهرته والزواج من بناته الثلاث، بل كان يبرم الأمور معهم ويمضي الاتفاقات بسهولة وتسامح وسلاسة ويسر دون أن يتكلف أو يُحمِّل أحدهم فوق ما يطيق، فما قدَر عليه صهره يتكلف به، وما لم يقْدر عليه يقوم هو بشرائه أو يتفاهما بحب لقضاء الأمور، بعيدًا عن الكبر والغطرسة واتباع التقاليد الزائفة.

 

خرج من السجن بعد أن جاوز الأربعين، وقضت له المحكمة بمرتبه بأثرٍ رجعي عن فترة الاعتقال؛ حيث كان يعمل بمطابع الهيئة الأميرية، وكان ينبغي أن يتزوج بهذا المبلغ، لا سيما بعد بلوغه هذه السن غير أنه آثر أخاه- مكفوف البصر- الذي يصغره بأكثر من عشرة أعوام؛ حيث زوَّجه بهذا المبلغ ليكون معه مَن يقوم بقضاء حوائجه وتدبير شئونه.

 

ومن صفاته الإنسانية التواضع، فكان يستعظم أن يأمر أحدًا بقضاء شيء له بالرغم من مرضه وصعوبة حركته، فكانت حاجته إلى جوار ضيفه وينهض هو ببطء ليقضيها لنفسه.

 

كفل كثيرًا من أفراد عائلته- كسوةً وإطعامًا وتعليمًا- حتى كبروا وتخرَّجوا في الجامعات، وكان يعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر، ويغدق على مَن حوله، كما كان يرعى شئون البيوت التي غُيِّب عائلها في سجون الظلم الصارخ، لا ينتظر في ذلك من أحدٍ جزاءً ولا شكورًا، فكانت البركة دائمًا في بيته وماله وأهله وولده.

 

وفاتـه

الجيل الذي ينتمي إليه الأستاذ الحاج عبد الحي إبراهيم سليمان جيلٌ دفع من عمره وجسده وأعصابه وبُعده عن أهله وأولاده ومعاناة مرارة الحبس والشعور بالظلم والقهر ما كان سببًا في انطلاقِ الدعوة بعد ذلك في ربوع الأرض؛ حيث تم ضغطُهم في السجون ضغطةً قويةً حتى انفجر هذا الضغط وتكسر على ضاغطيه؛ ليكون انتشار الدعوة بقدر هذه الضغطة القوية، ولكلِّ فعلٍ ردُّ فعلٍ- كما يقولون- مساوٍ له في المقدار، ومضادٌّ له في الاتجاه.

 

 الصورة غير متاحة

على الأرض في معسكر التدريب بالأزهر 1953

ولم يُقَدَّر لهذا الجيل- في مجمله- أن يرى ثمرات صبره ونتائج جهاده إلا لمامًا؛ لكنه سلَّم الراية لمَن بعده عالية القامة مرفوعة الهامة، وترك الشجرة يوشك أن تُجْنى ثمارها؛ حيث رأى الصحوة الإسلامية في مصر وفي غيرها تبلغ مدى لا بأس به، ورأى (88) من مرشحي الإخوان يدخلون قبة البرلمان المصري، وكانت جنازته صبيحة الانتخابات التشريعية الفلسطينية 25/1/2006م التي نجحت فيها حركة حماس، وشكلت الحكومة الفلسطينية فيما بعد، وصار بعد ذلك ما صار في مجلس الأمة الكويتي، ثم البحريني مؤخرًا.

 

وتحضرني في هذا المقام كلمة جليلة لداعيتنا الكبير الشيخ محمد الغزالي- يرحمه الله وهو من هذا الجيل- في تعقيباته على فتح مكة في كتابه الماتع (فقه السيرة): "وفي يوم الفتح قد ترجع بنا الذكريات إلى رجالٍ لم يشهدوا النصر المبين، ولم يسمعوا صوت بلال يرن فوق ظهر الكعبة بشعار التوحيد، ولم يروا الأصنام مكبوبةً على وجوهها مسواة بالرغام، ولم يروا عُبَّادها الأقدمين وقد ألقَوُا السَّلَم واتجهوا إلى الإسلام، إنهم قُتلوا أو ماتوا إبَّان المعركة الطويلة التي نشبت بين الإيمان والكفر.

 

ولكن النصر الذي يجني الأحياءُ ثمارَه اليوم لهم فيه نصيب كبير، وجزاؤهم عليه مكفول عند من لا يَظلم مثقال ذرة".

 

وما أروع ما قاله الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ (غافر: 77).

 

تجمعت الأمراض على فقيدنا في آخر حياته؛ حيث تعرَّض لجلطةٍ في القلب قبل وفاته بخمسة عشر عامًا، كما كان يعاني من السكر والمرارة، وقد أُجريت له عملية جراحية أثرت على عضلة القلب تسببت في الوفاة حينها؛ حيث شهق بين يديَّ ثلاث شهقات فاضت بعدها روحه في يوم الثلاثاء منتصف الليل تمامًا: 24/1/2006م الموافق 24 ذو الحجة 1426هـ، ودخل الغسلَ صباحًا، ورأيت بعيني آثار التعذيب على جسده، تشكو إلى الله تعالى الظلم والقهر الذي لاقاه هو وجيله في هذا العصر.

 

فاللهم بحقِّ هذا الإنفاق، وبحقِّ هذا الجهاد والصبر والثبات، وبحقِّ عطفه وحبه ورحمته بأبنائه وأحفاده، وبحقِّ بُكائه من أجل نيل الشهادة، وبحق جسده الذي واراه التراب وبه آثار التعذيب- ارحم جسده الذي عُذِّب في الدنيا أن يُعَذَّب في الآخرة، وبلغه منازل الشهداء، وارحمه رحمةً تغنيه بها عن رحمةِ مَن سواك، وارزقنا الصبر على فراقه، والسير على منهاجه، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا لفراقه لمحزونون... لمحزونون.

-------------

* [email protected]