ما زالت أجواء الانتخابات الرئاسية تخيم على تركيا، وما زال صدى نتائجها يدوي في العالم، وما زالت تحتاج إلى وقفات متأنية لمن أراد استخلاص الدروس في فقه إدارة الدولة وسياسة الشعوب وتحدي الصعاب.
الأحد 28 مايو الماضي، ذهب الناخبون إلى انتخابات الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في أجواء مشحونة، وهي المرة الأولى في تاريخ الانتخابات التي تعاد فيها انتخابات الرئاسة التركية، ذهبوا بعد أن تذكروا في اليوم السابق (27 مايو 1960م) أحداث الانقلاب العسكري المشؤوم على أول رئيس وزراء مدني منتخب ثم إعدامه، وما لاقوه بعدها من أهوال في حياتهم على يد الانقلابات العسكرية المتتابعة، وتذكروا بكل إجلال واحترام ذلك الرجل الفذ الذي تم الانقلاب عليه وإعدامه لا لجرم سوى أنه أراد بلاده مسلمة.. حرة.. مستقلة ناهضة!
كان عدنان مندريس، يرحمه الله، عضواً بحزب الشعب الجمهوري (حزب مصطفى كمال)، لكنه وبعد العودة من رحلة الحج إلى بيت الله الحرام قام عام 1945م إلى جانب نائبين هما جلال بايار، ومحمد فؤاد كوبريلي، بتأسيس حزب جديد هو «الحزب الديمقراطي» الذي شارك في الانتخابات العامة وفاز فيها بالمرتبة الأولى محققاً 62 مقعداً، ثم شارك في انتخابات عام 1950م وفاز بأغلبية ساحقة أنهت هيمنة حزب الشعب الجمهوري (حزب مصطفى كمال) ومكنته من تشكيل الحكومة، ومن فضل الله على تركيا أن الانتخابات فيها ظلت حرة في عهد الانقلابات، وتفرز إرادة الشعب الحقيقية، ولكن الجيش احتفظ لنفسه بالهيمنة الكاملة على السلطة، سرعان ما كان ينقلب عليها إذا خالفت تعليماته أو هددت هيمنته على الحكم.
في السنوات الأولى من حكمه، بدأ مندريس (1899 – 1961م) خطواته الأولى نحو بناء نهضة شاملة في جميع المجالات، وعزم الرجل، يرحمه الله، على استرداد قبس من هوية تركيا الإسلامية التي تم دفنها على يد مصطفى كمال، فقرر إعادة الأذان باللغة العربية، واستعادة المساجد التي تم تحويلها إلى مخازن، وأنشأ مساجد جديدة ومدارس للأئمة والخطباء، وتقارب مع العرب وتباعد عن الكيان الصهيوني، وكل ذلك كان محظوراً في عهد مصطفى كمال وخليفته عصمت إينونو، فانتقم منه الجيش معتبراً ذلك التوجه يقع تحت بند الخيانة العظمى، وتم إعدامه بهذه التهمة مع اثنين من وزرائه، في 17 سبتمبر 1961م، بعد محاكمة صورية من المجلس العسكري.
كشف تفاصيل يوم إعدامه
وقد ظلت تفاصيل ما جرى يوم إعدامه في طي الكتمان، ولم يعرف بها أحد طوال 57 عاماً مضت، لكن مظفر إركان (78 عاماً) الجندي الذي عايش عملية الإعدام، قرر قبل 6 سنوات كسر جدار الصمت، وكشف ما رآه بعينه مما حدث عند أعواد المشانق لمندريس ووزيري خارجيته وماليته زورلو، وبولاطكان، فقرر التحدث لوسائل إعلام تركية، وهو ما سجلته في حينه في مقال سابق أرى من الجدير إعادة أهم ما جاء فيه هنا.
يصف إركان جانباً من محاكمة مندريس قائلاً: كان الدفتر والقلم لا يفارقان يده، وعندما كان يريد أن يفصح للمحكمة عن أمر ما كان يرفع يده مستأذناً للحديث، وكان المدّعي العام عمر إيجيسيل يصرخ في وجهه بكل فظاظة ويأمره بالجلوس وعدم التحدّث.
كان إركان واحدًا من الجنود الأربعة المسؤولين عن نقل مندريس واثنين من وزرائه زورلو، وبولاطكان من جزيرة «ياسِّي أضا» إلى جزيرة «إمرالي» ليتم إعدامهم، كما أنه كان شاهداً على الأحداث التي جرت في ذلك اليوم الذي أُعدِم فيه مندريس ووزيرين منتخبين من الشعب، وكان دوناً عن غيره من العساكر المرافقين إلى جزيرة «إمرالي» الباقي الوحيد على قيد الحياة الذي ينقل تفاصيل تلك الذكرى بصورتها الحقيقية.
نترك إركان يروي ما جرى في ذلك قائلاً: «تم اختياري من بين 120 عسكرياً لأكون شاهداً على عملية الإعدام، وما زلت أتذكر تلك اللحظات المؤسفة.. لم يمر عليَّ يوم إلا وتذكرت ما جرى في ذلك التاريخ، كل لحظة من حياتي تذكرني بأجسادهم المعلقة على حبل المشنقة، أراهم في أحلامي وكوابيسي وكأنهم لا يرغبون بأن يتركوني.
بعد إعدام الوزيرين بولاطكان، وزورلو، انتظرت مع باقي الجنود 45 دقيقة في جزيرة «إمرالي» ثم عدنا إلى جزيرة «ياسّي أضا»، وفي الصباح الباكر قبل طلوع الشمس أمرني المدير المسؤول عن المحكومين بالإعدام بالذهاب مباشرة إلى غرفة احتجاز مندريس، كان مندريس لا يزال مرتدياً ملابس نومه، كانت أول مرة التي أرى فيها غرفة أحد المحكومين، فلم يكن مسموحاً للجنود رؤية غرف المحكومين، عندما خرج مندريس من غرفته أخبره أحد الضباط بأنه سيتم نقله لفحصه طبياً في إسطنبول ليتم بعد ذلك نقله إلى أنقرة ليرى عائلته وأولاده، لكن ذلك كله كان كذباً، يومها لم يسمح الطبيب بإعدامه لمرضه، فلم يوقّع اللواء العسكري على أمر إعدامه قائلاً: إنهم لا يمكنهم إعدام رجل مريض، وبدلاً من نقله إلى مشفى للعلاج تم إحضار طبيب بروفيسور من مشفى أوسكودار دينيز في إسطنبول لعلاجه.
حضر الطبيب ثم أخرج من جيبه مرهماً ووضعه على فتحات أنف مندريس التنفسية ولسانه حتى استعاد مندريس قوته، فوقّع اللواء العسكري بعد ذلك قرار حكم الإعدام، قبل تنفيذ الحكم كان العسكري محمد بيليتش المسؤول عن تلبية احتياجات مندريس قد حضّر ملابس مندريس كاملة وألبسه تلك البدلة السوداء ذات الخطوط البيضاء وحذاءه الجلدي اللذين لم يُر مثلهما قبل ذلك في تركيا، وربط له ربطة عنقه، فظن مندريس أنّه ذاهب إلى إسطنبول، لكن في هذه الأثناء أمر قائد الجزيرة العسكري بنقل مندريس مع طلوع الشمس إلى جزيرة «إمرالي» على السفينة العسكرية «J15».
كنّا 3 ضباط و4 عساكر في قمرة السفينة، وكان الباشوات في قمرة قبطان السفينة، وكان ممنوعاً عليهم أن ينزلوا للقمرات السفلية التي تضم المحكومين، وكان مندريس يظن أنه سيذهب إلى إسطنبول ليتم الكشف الطبي عليه هناك.
عند وصول السفينة إلى الجزيرة كانت الطائرات والمروحيات تحلّق فوقها، وكان الجنود ممسكين بأسلحتهم على أهبة الاستعداد، وعند خروج مندريس انصعق من المشهد فقد وجد نفسه واقفاً أمام الملازم ثاني كمال، واليوزباشي إسماعيل سيدّال، وكان ما يزال لم يخط خطوة واحدة خارج السفينة، وإذ به يرى الملازم الثاني طغرل أيضاً، وقبل أن تطأ قدمه الأرض كبّل إسماعيل سيدّال يدي مندريس، وأُرسله بمرافقة العسكر إلى غرفة الضيوف.
محاولات إذلاله قبل تنفيذ إعدامه
كنت واقفاً أمام مندريس الذي لم يقل كلمة واحدة، ثم جاء المدّعي العام عمر إيجيسيل إلى الغرفة ليقرأ عليه حكم الإعدام قائلاً: «انظر يا مندريس إلى أي حال وصلت الآن وها هو الآن يُقرأ على مسامعك حكم إعدامك»، لم يكن عليه أن يقول له هذه الكلمات احتراماً لمنصبه كرئيس وزراء سابق على الأقل، ومع ذلك بقي مندريس منتظراً وصول قادة الجزيرة العسكريين، لمدة 45 دقيقة بهدوء وصمت، على الرغم من جميع المحاولات لإذلال مندريس قبل الإعدام من تحضير الملازمين كمال، وطغرل لكفنه أمامه مباشرة، وسخرية طارق جورياي، القائد العسكري للجزيرة، حين قال له: «مع السلامة يا مندريس»، هل يُقال: «مع السلامة» لشخص ذاهب للموت؟! وأضاف جورياي ساخراً منه: «سامحني، خرجت منّي بالخطأ!»، لكن مندريس حافظ على كرامته إلى آخر نفس.
كانت آخر كلمات مندريس هي: «كنت رئيساً للوزراء لمدة 10 سنوات، وسيكتب التاريخ إنجازات 8 منها، وسنتين منها قضيتها في المجاملات الرسمية، لقد حلمت دائماً أن أعلم ابني يوكسيل في مدارس الدولة، ليصبح قلمه يقطر ذهباً، لأجل ألا يكون أولادنا مثلنا ويعيشوا ما عشناه» (إن ما كُتِب في الجرائد والكتب والمواقع الإلكترونية عن كلمة مندريس الأخيرة من وداع لأهله وعائلته وشعبه ودولته وتمنّي حياة سعيدة لهم هي كلمات غير حقيقية وغير صحيحة، الكلام ما زال للجندي إركان).
قبل تنفيذ الحكم كان مندريس نصف ميّت بسبب مرضه، وعند صعوده لمنصة الإعدام كان جسده يرجف من الألم بسبب مرضه الشديد، حاول منفّذ الحكم مساعدته للصعود، لكنّهم أرادوا إذلاله فجرّوه إلى المنصّة جرّاً من كتفيه، حتى إن حبة الدراق التي أكلها قبل الإعدام تقيّأها وملأت كفنه عند إعدامه.
كان الجلاد الذي نفذ الحكم في الثلاثينيات من عمره، اقترب من مندريس واضعاً حبل المشنقة حول رقبته ثم قال وهو ينظر إلى حذاء مندريس: «إن هذا الحذاء سيكون لي بعد انتهاء الإعدام!»، واستمرت عملية الإعدام 45 دقيقة، كانوا 4 عساكر وضابطين برتبة ملازم ثانٍ ويوزباشي وجلّاد ومصوّر وأستاذ (عالم دين)، وكان يقف في الخلف 3 أو 4 حرّاس، وقتها سأل الحراس الواقفون عن مكان الدفن؟ فأشاروا إلى أنّه قد تم تحضير 66 قبراً قبل بداية الإعدامات بل وقبل المحاكمات.
حزنت كثيراً للحال الذي آل إليه مندريس، فلم أستطع وضع لقمة واحدة في فمي بعد إعدامه، ولم أستطع أن أنسى ولو للحظة واحدة ما رأيته بعيني، فأصبحت أحداث ذلك اليوم وتلك المحاكمات والإعدامات تلاحقني في أحلامي وكوابيسي.
كان وزيرا مندريس حسن بولاطكان، وزورلو، قد سبقاه لحبل المشنقة، ففي الساعة الثانية فجراً وصل القرار بإعدام بولاطكان، وزورلو فقط، وفي الساعة الثالثة فجراً أُخرِجَ حسن بولاطكان من غرفته، وكان عند منصة الإعدام الضابطان كمال، وطغرل برتبة ملازم ثانٍ، ومعهم اليوزباشي إسماعيل سيدّال، وكنّا نحن كضبّاط أمن من الدرجة الثانية نقف خلفهما، كان المكان ممتلئاً بالعسكر بأزيائهم العسكرية، وتم تجهيز 3 منصات للإعدام، عند تنفيذ الحكم على بولاطكان تلا الضابط عليه جرائمه فقال: «وُجِد حسن بولاطكان متّهماً بمخالفة القانون، وبموجبه يتم تنفيذ قرار الإعدام»، ووضعوا حبل المشنقة حول رقبته، وسُئل عما إذا كانت لديه كلمات أخيرة ليقولها، فتحدّث وكان حديثه يوحي بأنه ما زال متمسِّكاً بمبادئه السابقة ضد هؤلاء العسكر، وبينما كان يواصل حديثه قاطعوه وتم تنفيذ الإعدام.
هذا المشهد من أبشع المشاهد التي رأيتها في حياتي، لم نكن ننظر لعملية الإعدام من أجل المتعة، لكنّنا كنّا مجبرين على إبقاء رؤوسنا ثابتة، فإمالة النظر عن الإعدام كانت تُعَد جريمة، كنّا ننتظر انتهاء الإعدام وأيادينا ترتجف خوفاً، فلم يكن الموجود على المنصة أحد البهائم ليُعدم بهذا الشكل، لقد أُعدِم بشكل غير إنساني أبداً».
يواصل إركان شهادته: «في تلك الليلة أخرج الحرّاس زورلو من غرفته ليتم أخذه إلى منصة الإعدام، فقد كانت غرف المحكومين قريبة جداً من منصة الإعدام، لكنهم لم يستطيعوا رؤية بعضهم بعضاً، فبين غرفة الإعدام وغرف المحكومين ممر وحائط فقط».
بالنسبة لزورلو فقد طلب الإذن ليتوضأ قبل الإعدام ويصلّي ركعتين على المنصّة، وصعدها بنفسه، حتّى إنه قال للجلاد: إنه سيعلّق نفسه بنفسه ليكفّر عن أي ذنب قد يكون ارتكبه في الماضي، ولم يتكلّم بكلمة واحدة، لقد أمسك لسانه داخل فمه، أشفقت على حاله ولم أحتمل ذلك المشهد وبدأت بالبكاء»، انتهت شهادة مظفر إركان.
وهكذا تم إعدام مندريس بتهمة الخيانة العظمى؛ إعادة الأذان باللغة العربية، ومحاولة الاقتراب بتركيا من الإسلام من جديد، ومحاولة إعادة أسرة السلطان عبدالحميد من الشتات، وقد تمكن بالفعل من إعادة زوجة السلطان عبدالحميد السيدة شفيقة (85 سنة)، وابنته الأميرة عائشة (60 سنة)، من باريس، وبعد إعدامه بيوم واحد فقط في 18 سبتمبر وُجدت السلطانة شفيقة والأميرة عائشة متوفيتين على سجادة الصلاة!
ذهب الناخب التركي إلى صناديق الانتخاب وفي وعيه وأمام ناظريه تلك المشاهد المأساوية التي شحذت همته وفجرت إصراره على صناعة تاريخ مشرق كيوم فتح القسطنطينية الذي حل في اليوم التالي 29 مايو مؤذناً بفجر عهد جديد وقرن جديد، وها هو الشعب التركي يتنسم عبيره منطلقاً نحو بناء نهضته الكبرى.
المصدر: المجتمع