فاطمة عبدالرؤوف
الحاجة للأمان هي الحاجة الأكثر أهمية على الإطلاق بعد إشباع الحاجات الغريزية الأساسية، بل قد تسبقها في بعض الأحيان وتمتزج معها في أحيان أخرى بطريقة متداخلة مركبة، لذلك اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم الركيزة الأولى من الركائز الثلاث التي تمنح الإنسان السعادة وراحة البال فقال: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» (رواه البخاري).
أن يكون الإنسان آمناً هي حاجة من أكبر حاجاته في هذه الحياة، لكنه لا يكون آمناً منفرداً، بل «آمن في سربه»؛ أي في أهله وعياله وبيته؛ البيت في معناه الحقيقي يعني روحاً تحتضن وتحمي وتستر وتمنح الأمان، أما الجدران الباردة فلا تحتضن ولا تمنحنا السكن.
فكيف يصبح البيت بيتاً حقيقياً؟ وما الذي يعيقه عن القيام بدوره في منح الأمان والإشباع لساكنيه؟
الأمن العاطفي
الإشباع النفسي والأمن العاطفي والحسي بين الزوجين هو الهدف الأول والأساسي لبيت حقيقي؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).
الهدف الأول للبيت تحقيق السكن الذي لن يتحقق إلا بالعواطف (المودة والرحمة).
المودة هي الحب.. هي الوئام والتقارب والتقرب.. هي المنح والإشباع والعطاء.. هي ذلك المزيج الفريد من الجسد والروح.. هي الآلية التي يجدد بها الشغف بعيداً عن الرتابة والملل والضغوط، لو تأملنا سلوك النبي صلى الله عليه وسلم لوجدناه حريصاً على هذه المودة وهذا القرب حتى امتزج ذلك بالعبادة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم» (رواه البخاري).
حتى التفاصيل الصغيرة من حياته صلى الله عليه وسلم تفعل هذا القرب، تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يعتكِفُ، فيُخْرِجُ إليَّ رأْسَه مِن المسجدِ وهو عاكِفٌ، فأغْسِلُه وأنا حائضٌ»، فالنبي صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات التعبد (الاعتكاف) ولكنه يطلب من السيدة عائشة أن تغسل له رأسه، وهي مهمة بسيطة ولكنها تمنح الحياة تفاصيلها القريبة الدافئة.. يحدث ذلك في وقت تعاني فيه أم المؤمنين من الحيض مظنة التباعد.
يرى البعض أن فائدة الحديث تكمن في أن المرأة في الإسلام طاهرة عكس اليهود الذين يخرجونها من البيت ولا يُؤاكِلوها، ولكن لعل المعنى أعمق من ذلك، فهذه الحائض بهذا القرب والاهتمام والعاطفة تشبع مشاعرها وتهدأ نفسها وتشعر بالأمان النفسي، وهو موقف متكرر من النبي صلى الله عليه وسلم أدركت السيدة عائشة أهميته في صناعة المودة وتجددها تقول: «كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فيّ، فيشرب، وأتعرق العرق وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فيّ»(1).
البيت الحقيقي يشبه اللباس؛ مريح.. يناسبنا.. يشبهنا.. يمنحنا الدفء.. يشعرنا بالحميمية.. هذا هو الهدف الأول والأساسي لفلسفة البيت في الإسلام؛ الإشباع النفسي والأمن العاطفي والحسي للزوجين (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة: 187).
عاصفة تحديات
لكن هذا الهدف يواجه في عصرنا هذا بعاصفة من التحديات يأتي على رأسها فوضى الاختلاط خاصة في بيئات العمل وما يصاحبها من ألفة وقرب ومشاركة ومقارنات! كما أن منصات التواصل الاجتماعي عززت من هذا الاختلاط غير المنضبط خاصة مع سهولة التعامل بأسماء مستعارة وشخصيات مزيفة، فإذا أضفنا لذلك أن هناك صناعة بالغة الضخامة قائمة على ترويج الصور والمقاطع الإباحية، وتصدير صورة معينة للمعايير الجمالية، ولفت الانتباه إلى ما يعتري الجسد البشري من عيوب لم يكن يتم الالتفات لها مسبقاً، فأدى ذلك كله لحالة هي مزيج من الفوضى في العلاقات وزهد في العلاقات الآمنة في البيت بعد أن تم اختزالها في إطار من الرتابة والملل والنقص فلم تعد تلك العلاقات المشبعة الكافية.
النتيجة النهائية لهذه التحديات هو ما نشهده من خراب في العلاقات الزوجية ومعدلات طلاق هستيرية، وعلى المستوى الفردي يعاني الفرد الذي لم يستطع النجاح في هذه التحديات من مشاعر نفسية بالغة السوء، فبالإضافة لشؤم المعصية، فإن الفراغ العاطفي يزيد ولا يقل، ففي العلاقات الـ«take away» لا يمكن أبداً الحصول على مشاعر الأمان، بل هي انهيارات مركبة؛ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) (التوبة: 109).
ليس هذا فحسب، فعلاقات الـ«take away» غير مشبعة وإن تعددت؛ (كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) (الرعد: 14).
علاقات الـ«take away» تبدو براقة مدهشة تدفع الدوبامين لأعلى معدلاته، لكن وبمجرد الوقوع في الفخ اللامع لا يجد الإنسان الذي تورط إلا مشاعر الخيبة والوحشة والألم.
استعادة الشغف
إن استعادة الشغف والحميمية في العلاقة الزوجية أمر ليس بالصعب، خاصة في مرحلة ما قبل الوقوع في التجاوزات، فمعرفة الإنسان وإدراكه أن ما يتعرض له من فتور هو أمر وارد وطبيعي، وأن استجابته لهذا الشعور هي ما ستمكنه من تجاوزه واستعادة مشاعر المودة أو ستتركه في العراء يعاني من التصحر العاطفي، فاقداً لمشاعر الأمان والطمأنينة، وما يتبع ذلك من السقوط السحيق؛ تجعل أجراس الإنذار تدق في عقله وتجعل حاجته ماسة لتفعيل الشعور العاطفي الثاني بالغ الأهمية في الوقاية من مشاعر الفتور وافتقاد الشغف أو حتى الجفاف العاطفي.. أعني مشاعر «الرحمة»، ولو ضربنا نموذجاً تطبيقياً لكيفية تفعيل شعور الرحمة وما يستتبع ذلك من استعادة شعور المودة والشغف لضربنا مثلاً بنموذج الزوجة بعد ولادة طفلها (خاصة الأول) حيث نسبة لا بأس بها من المشكلات من الأزواج من افتقادهم لاهتمام الزوجة، وكأن الأمومة تتعارض مع الزواج، وهو ما يدخلهم في دائرة الفراغ العاطفي، ومن ثم إذا لم يتم تدارك الأمر سيتم الانزلاق لدائرة التجاوزات خاصة مع كثرة الإغراءات المحيطة.
لكن بتفعيل الزوج لشعور الرحمة (خاصة مع وجود طفل) سيتلمس كثيراً من الأعذار للزوجة من تجربة ولادة موجعة وهرمونات مضطربة حد الوصول لحالة الاكتئاب في بعض الأحيان، مع ضغوط جديدة تختبرها لمرتها الأولى وقلة نوم.. فتتحرك مشاعر الرحمة نحوها، ويتحول تفكيره من دائرته الخاصة الضيقة التي يبحث فيها عن حاجاته وما يفتقده لشعور الرحمة التي تعني في معناها اللغوي الاتساع والرفق والرقة، فتتسع رؤيته ويترفق بزوجته وينشغل بكيفية مساعدتها والتخفيف عنها؛ مما يمنحها مشاعر الأمن العاطفي فتتجاوب مشاعرها نحوه بطريقة ربما أكثر عمقاً، وتدريجياً يدخل الزوجان دائرة الشغف والمودة والإشباع العاطفي مرة أخرى.
________________________
(1) الْعَرْقَ: الْعَظْم الَّذِي عَلَيْهِ بَقِيَّة مِنْ لَحْمٍ, وَتَعَرَّقْتَ العظم: أَخَذْت عَنْهُ اللَّحْم بِأَسْنَانِك.
المصدر: المجتمع