بقلم: وفاء مشهور
لقد عجزت النظم البشرية الموجودة على الساحة في علاج حالة الاضطراب والفساد التي وصلت إليها المجتمعات البشرية, ولا دواءَ لهذا إلا بالإسلام الذي جاء لتربية الأفراد على المبادئ والقيم الإسلامية الكفيلة بإصلاح هذه المجتمعات.
والتربية رغم ما فيها من مشاق طول مراحلها إلا أنها الطريق الوحيد للإصلاح، كما أن الفتنَ الموجودةَ في هذا العصر لا يقدر على صدها إلا مَن تربَّى تربيةً تحميه من الانزلاقِ والانحراف الفكري والسلوكي.
والدعوة إلى الله مسئولية كبيرة يجب القيام بها وهي أمانة ثقيلة لا يقوى عليها إلا مَن حظي بقسطٍ وافٍ من التربية يؤهله لتحمل المسئولية وحسن التعامل مع مَن حوله حين يدعوهم.
ولكي يستطيع دعاة الإصلاح القيام بهذه المهمة الثقيلة عليهم اتباع المنهج النبوي الذي تمكَّن خلال فترةٍ وجيزةٍ من تحويل المجتمع الجاهلي إلى مجتمعٍ سادت فيه القيم الإسلامية النبيلة، ولقد جاء الرسول- صلى الله عليه وسلم- بمنهجٍ تربوي شامل يظهر من دعائه- صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي من كل خير، واجعل الموت راحةً لي من كل شر يا الله".
وتكونت الأمة الإسلامية في عهده- صلى الله عليه وسلم- بعد أن قام بتربية أفرادها تربيةً شاملةً وكوَّن من هؤلاء الأفراد (المهاجرين والأنصار)، الجماعة المسلمة الأولى التي كانت نواة الأمة الإسلامية ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110) صدق الله العظيم.
وكنماذجٍ لهذه التربية نرى أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال ومصعب ابن عمير التي قامت عليهم دولة الإسلام فمثلاً استطاع مصعب بن عمير أن يُدخل الإسلام إلى بيوت المدينة قبل أن يصل إليها الرسول- صلى الله عليه وسلم- وما كان ليتم هذا إلا بتربية الرسول- صلى الله عليه وسلم- لهذا الرعيل.
ويتمثل أثر هذا المنهج في تربية الأفراد وتزكيتهم في عمر بن الخطاب، وتاريخه قبل الجاهلية معروف وبعد أن دخل في الإسلام.
وبعد أن اطمأنَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- على المستوى التربوي والأخلاقي للصحابة أوصانا بقوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي", وقوله "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
فكان- صلى الله عليه وسلم- قدوةً لهم، وصاروا قدوةً لمَن بعدهم، والتربية بالقدوة من أنجح وسائل التربية، وكما قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، وكان له من الصفات النفسية والخلقية والعقلية ما أهله بأن يوصف بما وصفه الله به في كتابه ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾ (القلم)، واقتدى به صحابته والتابعون وتابعوهم من بعدهم على مدار التاريخ فكانوا القدوة الصالحة للبشرية في كل زمان ومكان.. ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: من الآية 21)، ولكي نكون شهداء على الناس في عصرنا هذا كما شهد علينا الرسول- صلى الله عليه وسلم- علينا أن نلتزم بشهادة الرسول علينا.. ﴿وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (الحج: من الآية 78).
ولقد ضرب لنا الرسول- صلى الله عليه وسلم- مثالاً في كل مجالات الحياة من خلال حياته سواءً في زواجه أو في دعوته أو في معاملته لغير المسلمين أو في عبادته أو في جهاده أو في تعامله مع الشباب والأطفال... إلخ.
هذا المنهج الرباني الذي ورثناه عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن أصحابه لا ينكره أحد والسؤال ماذا فعلنا فيه؟
إن التربية المعاصرة الحديثة والتي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالمادة وها نحن نرى نتائجها فيما أفرزته لنا من شباب وشابات فقدوا الثقةَ في نفوسهم وفي مجتمعاتهم وصاروا بلا هدفٍ ولا هوية، ولو سألت الكثير من هؤلاء الشباب ما هدفك يقول لا أعرف، وهكذا نجد الشاب قد فقد شخصيته وهو يتهاوى؛ نظرًا لخوائه الفكري والروحي، وأصبح مرتعًا خصبًا لما يأتي من الخارج، وكما ذكر أحد الكُتَّاب أنه في أحد المراكز التربية اجتمع عددٌ من كبار علماء التربية الأمريكان وناقشوا اقتراحًا قدَّمه أحدهم وهو إيجاد شخصية أمريكية عالمية يقتدي بها، وبعد تداولٍ استقروا على الشخصية وسموها "السوبرمان"، وبدأ التحرك الفعلي وخرجت الأفلام واللعب والصور المتحركة، وحققت هذه الشخصية النجاح الذي لم يكن يحلمون به وبعد نجاحها تضافرت الجهود على تبني شخصية أخرى "كرند إيزر" ونجدها على كل شيء حتى على الأدوات المدرسية، ونجحت التربية الحديثة في طمسِ الهوية الإسلامية, وطبعًا لغياب القدوة أصبح الشاب لا يعرف من أين يتلقى وبمَن يقتدي حتى إن الأسس التربوية غير واضحة عند الكثير، فكان من المهم أن نتعرَّض لمفهوم التربية وخصائصها ومكوناتها وصفات المربي.
مفهوم التربية
التربية هي الأسلوب الأمثل في التعامل مع الفطرة توجيهًا مباشرًا بالكلمة أو غير مباشر بالقدوة، ولكن وفق منهج خاص ووسائل خاصة، وهو خبرة تُؤثِّر في السلوك؛ ولذلك فإن الدعاة والمصلحين أول ما يقصدون تربية النفوس وتقوية الأخلاق ويعتقدون أن ذلك هو الأساس الأول الذي تبني به عليه نهضة الأمم والشعوب، وعليه فإن التربية هي محور المعركة الحقيقية، فبالتربية نستطيع أن نقف أمام الذين يهدفون إلى طمس الهوية الإسلامية فيتمكنون من تضليل غاية الشباب.
خصائص التربية
أولاً: ربانية:
فهي ربانية المصدر بمعنى أنها تتلقى أوامرها من الله، وربانية الوجهة بمعنى أنها تبتغى بكل عمل وجه الله, فالجانب الإيماني أو الرباني من أهم جوانب التربية؛ لأن هدفها تكوين فرد مؤمن وعمادها القلب الموصول بالله الموقن بلقائه، والراجي لرحمته الخائف من عقابه, والمراد بالإيمان هنا ليس مجرد قول أو ادِّعاء، وإنما هو حقيقة وطبيعة وشعور ليصل إلى القلب فتتأثر به العاطفة فيذر أثره عند التطبيق والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
ويظهر أثر التربية الربانية في تصرفات الصحابة فها هو أبو لبابة عندما شعر أنه خان الرسول- صلى الله عليه وسلم- حين سأله بنو قريظة هل ننزل على حكمِ محمد فأشار إلى حلقه كأنه يقول لهم إنه الذبح، فأحسَّ بعدها بأنه خان أمانة الرسول فربط نفسه بعمود بالمسجد حتى يتوب الله عليه فبإيمانه وتربيته حكم على نفسه بهذه العقوبة.
ثانيًا: شاملة متكاملة متوازنة:
فهي نابعة من تكامل منهج الإسلام الذي يتناول الجوانب اللازمة لصلاح الدنيا الآخرة بشكلٍ متكاملٍ متوازنٍ لا تميل إلى جانب على حساب جانب، ولا تبالغ في أمر دون آخر، فتعطى كل ذي حقٍّ حقه، وهو شامل لأنه يلمس نفسيات ومشاعر وحاجات النفس البشرية؛ لأنه عقيدة وعبادة وثقافة وقانون وخلق وجهاد وعلم وقوة ورحمة.
أ. الجانب الإيماني: إن عماد التربية الإيمانية القلب الموصول بالله، الخائف من عقابه سبحانه وتعالى.. قال رسول الله: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم"، فلا يُقاس العمل بالمظهر، ولكن بالإخلاص والإيمان (كما أشرنا سابقًا).
ب. الجانب الثقافي: الدين يحترم العقل فقد جاءت آيات كثيرة تدعو إلى إعمال العقل واستخدامه.. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الرعد: من الآية 3) ﴿يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة: من الآية 179 )، ﴿أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾ (يس: من الآية 68)، فلا بد للمسلم أن يكون على بصيرةٍ ولا يقبل التقليد؛ ولذلك اعتبر دعاة الإسلام أن أساس بناء شخصية الفرد الفهم الصحيح للإسلام، خاصةً في هذه العصور التي جمعت بين الوافد والموروث
ج. الجانب الأخلاقي: الأزمة التي يعيشها العالم الآن أزمة نفوس وضمائر أخلاقية فإذا كنا نريد أمةً مسلمةً، فلا بد من ارتقاءٍ أخلاقي للشعوب؛ ولذلك جاء الرسول كما جاء في الحديث "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، والجانب الأخلاقي مرتبط بالإيمان، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبدأ توجيهاته بتقديم الإيمان مثل حديث الرسول "مَن كان يؤمن باليوم الآخر فليكرم ضيفه".
د. الجانب البدني: والمراد صحة الجسم ومرونته وتحمل المشاق، وهذا الجانب له أهميته في التربية سواء الكبار أو الصغار؛ لأننا نُريد أن نُربِّي رجالاً يتحملون أعباء دعوة الله ويجاهدون من أجلها.
هـ. الجانب الاجتماعي: بحيث نتعرف على المشاكل والقضايا المعاصرة التي يتعرَّض لها الشعوب وكيفية العلاج ثالثًا: متدرجة:
التربية عبارة عن سلسلةٍ من المراحل التربوية في البناء، فمن استعجل الشيء قبل أوانه عُوقب بحرمانه، ولقد ضرب لنا الرسول- صلى الله عليه وسلم- مثلاً في أسلوب التربية المتدرجة مع الشاب الذي جاءه يستأذنه في الزنا، ومثال آخر يتضح من تسويةِ قطعتين من اللحم إحداهما على نارٍ هادئة ولكن تُسوي طعامًا صالحًا والأخرى على نار عالية قد تُفسد الطعام وإن بدا أنه ناضجًا؛ وذلك نتيجة الاستعجال.
وهذا التدرج يبدأ بالفرد المسلم، فالبيت المسلم فالمجتمع المسلم، فيكون التغيير جذريًّا متدرجًا لا فوقيًّا مستعجلاً.
رابعًا: حركية:
التربية الحركية تجعل الفرد منا يتحرك بإيجابية ليصلح المجتمع، فالعملية التربوية لا نتستطيع أن نحكم على نجاحها إلا من خلال تحركِ المربى وما يحدثه من أثر إيجابي في المجتمع دون أن يتأثر هو بالمؤثرات السلبية الموجودة.
خامسًا: مستمرة:
التربية ليس لها ثقف، ولا يستطيع أحد أن يدَّعي أنه فوق العملية التربوية، فهي مستمرة مدى الحياة مع الإنسان.
سادسًا: مثالية واقعية:
لا بد أن نُراعي متطلبات النفس من أحاسيس ومشاعر وخصائص، ولا نُهمل الفروق الفردية ونقبل ظهور طاقات جديدة، ونتخير الأسلوب الأمثل في التعامل الذي يناسب كل عصر ومكان بما لا يتعارض مع أية قاعدة شرعية.
|
صفات المربية
أن نجاح العملية التربوية يقع على عاتقِ المربي، فإن التكوين المتين للمربي يرفع مهارات المُربَّين، كما أن ضعف مؤهلات المربي ينتج عنه تأخر تربوي لدى المُربَّى.
* الخصائص:
1- الربانية:
تخلص في عملها - تأخذ بالأسباب وتحسن التوكل على الله- تستعين بالله في كل موقف- تجدد النية
2- القدوة:
منضبطة في تعاملها- بشوشة ومتفاهمة- تُطبق ما تتعلمه- تلتزم بالضوابط الشرعية.
3- متزنة العواطف والانفعال: (اتزان العواطف والانفعالات، الهدوء، الحلم، اللين، سعة الصدر وسلامة القلب).
* المعارف:
1- معرفة البرامج والمناهج التربوية التي تتناسب مع كل مرحلة سنية.
2- على قدرٍ من العلم الشرعي.
3- وعي بالأساليب والوسائل المعاصرة التي تدعم العملية التربوية.
4- وعي بالواقع.
* المهارات:
1- استيعاب من حولها
2- حل المشكلات
3- اكتشاف العيوب وإصلاحها
4- المتابعة والمثابرة وتقييم المردود التربوي.
5- فنون ومهارات تربوية: فنون الحوار- والاتصال- فن الإقناع والتأثير
ملحوظة:
فقدان الخصائص لا تعوضه كثرة المعارف والمهارات، فالمربي الذي لا يسع الناس بقلبه تصعب الاستفادة بكثرةِ معارفه ومهاراته.
والعلم إن لم تكتنفه شمائل تُعليه كان مطية الإخفاق