https://ikhwanonline.com/article/265244
الأحد ٢٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ - 1 ديسمبر 2024 م - الساعة 10:14 م
إخوان أونلاين - الموقع الرسمي لجماعة الإخوان المسلمون
زاد الداعية

الظلم ظلمات يوم القيامة

الظلم  ظلمات يوم القيامة
السبت 9 سبتمبر 2023 09:30 ص
بقلم: أسامة جادو

روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظلموا...." وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)﴾ (النساء).

وقال تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)﴾ (ق).. هكذا شأن الله تعالى لا يحب الظلم ويكره الظالمين.

وقد توعد الله تعالى الظالمين بسوء العاقبة، وأشد العذاب، ولا تزال آيات القرآن الكريم تقص علينا من نبأ الظالمين العتاة ما يجعل أولي الألباب ترتعد فرائصهم خوفًا من الوقوع في الظلم، ومن ثم الورود على مهالك الظلمة.

ففي سورة (الفجر) في آيات سريعة الإيقاع شديدة التأثير، نشاهد الجبابرة الظلمة تتهاوى عروشهم وتزول دولتهم.

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾.

ولقد حذَّر الله تعالى عباده المؤمنين من أن يداهنوا الظلمة، ويركنوا إليهم، وتكون بينهم مودة ومحبة وطاعة، قال تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113)﴾ (هود).

فإذا كان عاقبة الركون والميل إلى الظلمة هي لفح النار ولهيبها؛ فكيف تكون عاقبة الظالمين أنفسهم؟

قال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)﴾ (الصافات).

لهذا رأينا من كان في قلبه إيمان، ويعمل مع ظالم يستشعر الحرج، ويفر إلى أئمة الهدى يطلب العلاج، جاء رجل إلى سفيان الثوري- رحمه الله- فقال: إني أخيط ثياب السلطان؛ هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع لك الإبرة والخيوط.

وقال أحد العارفين: رأيت في المنام رجلاً ممن يخدم الظلمة بعد موته بمدة في حالة قبيحة، فقلت له: ما حالك؟ قال شر حال، فقلت: إلى أين صرت؟ قال: إلى عذاب الله، قلت: فما حال الظلم عنده؟ قال: شر حال، أما سمعت قول الله عز وجل: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: من الآية 227).

ولنتذكر هذا المشهد الرهيب المخيف الذي تنخلع القلوب من هوله، قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)﴾ (غافر).

وهذا نبينا العظيم صلى الله عليه وسلم يرهب الأمة من الظلم، ويبين عاقبته حتى نحترس منه ونسلم.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اتقوا الظلم فإن الظلم يأتي ظلمات يوم القيامة"، وقال صلى الله عليه وسلم:

"من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين" (متفق عليه).

فمهما ضؤلت المظلمة، ومهما صغر الظلم تضاعف العقاب، وزيد في العقاب، ولهذا رأينا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يستحث الأمة أن تتخلص من المظالم، وتتحلل منها في الدنيا قبل الآخرة فهو القائل: "من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" (رواه البخاري).

فمال بال أقوام ينتسبون إلى الإسلام، ويشيعون في الأرض الظلم والفساد، ويمنعون الحقوق أن تصل لأصحابها، ويسلبون حقوق إخوانهم بغير حق أما آن لهم أن تخشع قلوبهم لله فيكفون عن الظلم ويردون الحقوق لأهلها؟.

ما بال أقوام يظلمون الناس بغير الحق، ويعذبون العباد، ويظنون أن السلطة التي في أيديهم والمال الذي في خزائنهم والقوة التي في أجسادهم هي حصون تمنعهم من الله تعالى، ألا فليعلموا أن الله ذو بطش شديد، ولا يرد عذابه فلا ينبغي لعاقل أن يغتر بقوته أو سلطانه، أو ماله، وليسمع صوت الهالك الذي أخذ كتابه يوم القيامة بشماله ﴿فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)﴾ (الحاقة).

وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة"، فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ فقال: "وإن قضيبًا من أراك" (رواه مسلم).

سبحان الله العظيم، وإن كان شيئًا صغيرًا لا يهتم به؛ فإن عودًا من الأراك (السواك) غير ذي قيمة، ويداس تحت الأقدام، ورغم هذا فهو عند الله عظيم.

فيا أخي المسلم، ويا أختي المسلمة.. ليكن لنا عظة وعبرة مما سبق، ولنجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر، ولنعاهد الله تعالى أن نكف عن الظلم، ونرد الحقوق لأهلها قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال يوم لا ينفع مال، ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

المبحث الثاني:

سنن الله تعالى مع الظالمين

وقد جرت سنة الله تعالى مع الظالمين على نحو يليق بعدل الله ورحمته التي وسعت كل شيء وسبقت غضبه، فمن سنن الله تعالى مع الظالمين:

(1) البيان والتعريف أولاً:

قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)﴾ (التوبة).

فهذه حكمته: أن يبين للعباد ما شرعه لهم، وافترضه عليهم، وما زجرهم عنه، وتنوعت سبل البيان الإلهي للعباد رحمة بهم فأنزل الله الكتب، وأرسل الأنبياء والرسل، ويسَّر شرعه على عباده كي يفهموا، ويؤمنوا بربهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)﴾ (القمر).

وقال في شأن قوم صالح: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)﴾ (فصلت).

وهداية ثمود تمت ببعثة سيدنا صالح عليه السلام، وقامت الحجة عليهم فما كان من ثمود إلا أن استحبوا العمى والضلال، والباطل على الهدى والحق، فصاروا قومًا ضالين عامين، فحق عليهم قول ربك فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون.

وقال تعالى في شأن الإنسان: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾ (الإنسان).
وقال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)﴾ (البلد).

وهذا من فيض رحمته بعباده بيانًا وهدايةً، فالحق أبلج ظاهر وواضح لا لبس فيه ولا غموض، بعد ذلك: ﴿وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: من الآية 29).

لأن الهداية تمت والحجة على الخلق قامت فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر ولا يلومنّ إلا نفسه.

(2) سنة إمهال الظالمين رويدًا:

وهذه رحمة عظيمة تدرك الظالمين بعد البيان والتعريف، فلا يزال المولى تبارك وتعالى يصبر على الظالم ويمهله، ويرجئ العقاب الذي يستحقه إلى حين، ويقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:

﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)﴾ (الطارق)؛ رغم كفرهم، ورغم كيدهم الذي تزول منه الجبال يمهلهم ويملي لهم علهم يرجعون.

وإلى هذا المعنى تشير الآية الكريمة من سورة (هود): ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (8)﴾.

وهذه السنة الكونية لا يستفيد منها إلا العقلاء أولو الألباب الذين يتعظون بغيرهم ويفهمون الإشارات، والإنذارات الربانية فيستقيمون على أمر الله، ويصيرون في أمانه وفضله إلى حين كما فعل قوم يونس، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)﴾ (يونس).

وأما من اتبع نفسه هواها، وأصم أذنيه فلم يسمع الحق وأعمى عينيه فلم ير الهدى ومضى في غيه فحقت كلمة العذاب فإن هذا الإمهال من الله تعالى لا يزيدهم إلا عتوًّا في الأرض وفسادًا.

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي الظالم فإذا أخذه لم يفلته"، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)﴾ (هود) (رواه البخاري ومسلم).

ولقد توعد الله تعالى الظالمين والمكذبين، فهو القائل لنبيه: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)﴾ (القلم).

فمن تدبر هذه السنة الكونية ووعاها فاستجاب لأمر الله- كما فعل قوم يونس- كتبت له النجاة، ومن أعرض عنها ونسي ما قدمت يداه حلت به السنة التالية.

(3) سنة العقاب الرباني المصبوب على الظالمين:

قال تعالى: ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾ (الفجر).

وهنا تتدخل الإرادة الإلهية لتذيق الظالمين بعض ما كسبوا فتحل بهم نقمة الجبار، وينزل عليهم عذاب القهار، وما للظالمين من أنصار.

لقد انتهى وقت البيان والتعريف، ومضى زمان الإمهال والتأجيل، وحانت ساعة الانتقام الرهيب، ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ (المدثر: من الآية 31).

فإذا بالكون كله مسخر لإهلاك الظالمين، وإذا بجنود الله تعالى يشتركون في هذه المعركة لصالح المؤمنين، واستمع إلى هذه الآية الكريمة، وهي تصف لنا نهاية الأقوام الظالمة، وهلاك واندثار الحكام الجبابرة.

﴿فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾ (العنكبوت)، وهكذا حق عليهم قول الله ونزل بهم وعيده.

(4) وماذا في الآخرة؟

وجرت سنة الله تعالى أن يجعل عذابه للظالمين موصولاً يبدأ في الدنيا، ويستمر معهم في حياتهم البرزخية، ويدوم عليهم في الآخرة حيث الحياة الباقية وعذابهم السرمدي.

وهذا حديث القرآن الكريم عن أظلم ظالم من البشر، وهو فرعون، وقد قص علينا القرآن الكريم هلاكه وغرقه بهذه الصورة المأساوية الرادعة، ثم أخبر ربنا تبارك وتعالى في سورة غافر عن عذابهم فقال تعالى: ﴿.... وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾ (غافر).

وقال في قوم نوح عليه السلام: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)﴾ (نوح).

وختام الحديث عن سنة الله تعالى مع الظالمين تلك الآيات الكريمة في ختام سورة إبراهيم، وهي تطمئن المؤمنين أن الله تعالى يعلم ما يفعله الظالمون، وأنه سبحانه يملي لهم وغدًا سيأخذهم، ولن يخلف الله وعده لرسله.

﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)﴾ (إبراهيم).

تلك كانت سنة الله مع الظالمين الأولين والآخرين ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا                     فالظلم ترجع عقباه إلى الندم

تنام عينيك والمظلوم منتبه                     يدعو عليك وعين الله لم تنم

 

المبحث الثالث:

محاربة الظلم وردع الظالمين واجب شرعي

أوكل لله تعالى مهمة محاربة الظلم وردع الظالمين، وتغيير المنكر، وإقامة الحق في دنيا الخلق، وإبطال الباطل لعباده المؤمنين وجعل ذلك علامة على الإيمان.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" (رواه مسلم).

وهكذا أوجب الشرع الإسلامي على المسلمين واجب تغيير المنكر، وأن تقوم جماعة المسلمين بتغيير هذا المنكر، كلٌّ على حسب استطاعته.

ولا شك أن الظلم منكر عظيم، وجب تغييره حتى يعم الحق الأرض كلها، وهذا واجب المسلم الصحيح.

وقد حذَّرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من أن نسكت على الظالم، ونرضى بظلمه؛ فإن فعلنا ذلك حق علينا عقاب من الله تعالى.

روى الأئمة أبو داود والنسائي والترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".

ولعل في الأحاديث الواردة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يزيد هذا الأمر وضوحًا.

ما دورنا تجاه الظلم والظالمين؟

لعل سائل يسأل (بعدما قرأ وسمع عن الظلم والترهيب منه، وبعدما علم أن مقاومة الظلم وردع الظالمين واجب شرعي نصت عليه الآيات والأحاديث) فيقول: ما دورنا؟ نقول وبالله التوفيق.. إن واجبنا أن نقاوم الظلم، وأن نستمسك بالحق ونصبر عليه، وأن نبصر الناس بخطورة الظلم عليهم في الدنيا والآخرة، وأن نتضرع إلى الله تعالى أن يكون معنا، وأن ينصرنا على الظالمين.

هذا واجبنا إجمالاً، أما تفصيل ذلك فنقول:

أولاً: علينا أن نصبر

لأن الثبات على الحق قوة عظمى ونصر مبين، وإن خيل للناس أنه سلبية وضعف.

فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يربط على قلوب أصحابه المعذبين، ويقول لهم: "صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة"، وبمثل هذا الصبر تربى الجيل العظيم الذي أشرقت به الأرض، وسعدت به البشرية، ومنه تكونت خير أمة أخرجت للناس؛ فالصبر زاد المؤمنين، والنصر عقبى الظالمين.

ومعنى ذلك أن يظل المسلم الصحيح عاملاً مجاهدًا في سبيل الله، مهما بعدت المدة، وتطاولت السنوات، والأعوام حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين، إما بلوغ غايته المنشودة، وإما الشهادة في النهاية... قال تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب)، ولنتذكر هذه المقالة الطيبة "بين النصر والهزيمة.. صبر ساعة"، نعم من يصبر، ويثبت فهو الغالب وهو المنتصر، قال تعالى تعقيبًا على قصة يوسف عليه السلام بعدما مكَّن الله له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، قال تعالى: ﴿مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف: من الآية 90).

ثانيًا: تبصير الأمة بخطورة الظلم عليهم في الدنيا والآخرة

وهذا أمر ضروري ينبغي فضح الظلم، وكشف الظالمين، وبيان أعمالهم الباطلة، ولا نخاف في الله لومة لائم.

وهذا من واجب الدعاة إلى الله أن يقوموا بواجب النصح والإرشاد لعباد الله؛ مهما كلفهم ذلك، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)﴾ (الأحزاب).

ثالثًا: نصرة المظلوم ورد الظلم عنه

وهذا الأمر المهم أفردت له مبحثًا خاصًّا به نظرًا لأهميته، وحاجة الناس إليه، وذلك في المبحث التالي:

المبحث الرابع:

نصرة المظلوم

قيمة من قيم الإسلام الحنيف غرسها القرآن الكريم في نفوس المؤمنين، وربى عليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وحافظت الأجيال المسلمة على هذه القيمة جيلاً بعد جيل.

ونود في عجالة أن نشير إلى النقاط التالية:

أ- نصرة المظلوم من شيم سلفنا.

ب- نصرة المظلوم من مبادئ الإسلام وقيم الشريعة.

ج- مواقف وتجارب في نصرة المظلوم.

د- كيف تتحقق النصرة؟

أ- نصرة المظلوم من شيم سلفنا:

 الصورة غير متاحة
إن نصرة المظلوم من شيم الفطرة السوية التي ترق للمظلوم، وتخف لنجدته، وتمقت الظلم، وتنهض لدفعه، وهي كذلك من القيم العربية الأصيلة التي تجلت بوضوح في (حلف الفضول) الذي تعاهدت فيه قريش ألا يتركوا مظلومًا في مكة، أو فيما يفد إليها من سائر الناس إلا قاموا معه حتى يدفعوا عنه مظلمته، ويردوا إليه حقه، وقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحلف، وظل يذكره معتزًا به لإقراره هذا المعنى الإنساني الفاضل، فيقول عنه: "لقد شهدت حلفًا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت" (سيرة ابن هشام جـ1)؛ ما يدل على أن الدفاع عن حقوق الإنسان ميدان تعاون رحب بين المسلمين ومخالفيهم في التوجهات والأفكار والعقائد.

 

وقد أكد مضمون هذا الحلف كذلك (قانون الإجارة)، وفيه يبسط المجير حمايته على المستجير، ويبذل له نصرته ويذود عن ماله، وعرضه، وحياته ما بقي في جواره... وقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من هذا القانون في أوقات الكرب والشدة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي بعدما رجع من الطائف، وقد ناله من سفهائهم وصبيانهم أذى كثير، فإذا بالمطعم يحيطه بصفين من أبنائه المدججين بالسلاح، وهم على شركهم، ويتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث شاء في حراستهم فلا يجرؤ أحد أن يقصده بأذى.

ودخل عثمان بن مظعون كذلك في جوار الوليد بن المغيرة، فظل في عافية وسلامة حينًا، ثم أبت عليه شهامته الاستمرار على هذا الحال مع ما يلاقيه سائر المسلمين من صنوف الإيذاء والبلاء؛ فرد على الوليد جواره علانية في المسجد، ثم وقف على أحد الشعراء، فلما سمعه يقول: وكل نعيم لا محالة زائل فقال له: كذبت نعيم الجنة لا يزول... وعندها هجم عليه أحد الحمقى وضربه على عينه فخضرها ولما رأى الوليد ما أصابه قال: إن كانت عينك لغنية عما أصابها، فيرد عثمان رضي الله عنه في جلد وشموخ: بل إن عيني الصحيحة لفقيرة لما أصاب أختها في سبيل الله.

وقد بدا هذا المبدأ (نصرة المظلوم) واضحًا في موقف هذا الرهط الشهم الذي سعى في نقض صحيفة المقاطعة الجائرة الظالمة التي علقوها في جوف الكعبة، وأصاب المسلمون منها بلاء عظيم على مدى ثلاث سنوات، وكان كل واحد من هذا الرهط ينادي في الناس مستثيرًا المشاعر الإنسانية فيهم بقوله: "أيهلك هذا الحي من قريش بين أظهرنا، كيف يطيب لكم طعام أو شراب وهؤلاء يموتون جوعًا وعطشًا"؛ وبهذا المنطق المؤثر التف أصحاب المروءة حولهم حتى مزقوا الصحيفة وأطلقوا المسلمين من هذا الحصار الخانق.

ب- نصرة المظلوم من مبادئ الإسلام وقيم الشريعة

وإذا كان هذا شأن العرب قبل الإسلام (حمية ونخوة) فإن نصرة المظلوم قد ازدادت وجوبًا وتأكيدًا بعد الإسلام "(دينا وأخوة)؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، قيل يا رسول الله أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "تحجزه عن ظلمه فذلك نصره" (رواه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه).

فهذا التوجيه النبوي الكريم قد أكد معنى النصرة، ووسع نطاقها حتى يشمل طرفي المشهد، فيدافعون عن المظلوم، ويأخذون له حقه، ويردون له اعتباره، ويضربون على يد الظالم، وينتزعون فتيل شره، ويوقفونه عند حده.

وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه....." (متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما).

وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى" (متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما).

وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، ثم شبك بين أصابعه" (متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه).

هذا ولم يترك الإسلام فرصة للإفلات من هذا الواجب (نصرة المظلوم)؛ حيث حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلبية والتخاذل فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يقفن أحدكم موقفًا يضرب فيه رجل ظلمًا؛ فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه" (رواه الطبراني).

ألا فليعلم من يقفون متفرجين على المظلوم، ثم يمصون شفاههم ويلوون أعناقهم، ثم ينسحبون غير مكترثين؛ إنما يعرضون أنفسهم للمقت واللعن... ووالله ما هان المسلمون أفرادًا وأممًا وما استأسد أعداؤهم واستباحوا حرماتهم ونهبوا حقوقهم ودنسوا مقدساتهم؛ إلا حين سرت روح التخاذل بينهم، وتنكر بعضهم لبعض، لقد كونت هذه التعليمات الإسلامية السامية أمة عزيزة أبية متآخية قوية، ما إن تقع مظلمة على فرد منها حتى تفور دماء الشهامة والنخوة للدفع والنصرة.

ج- مواقف وتجارب في نصرة المظلوم

وقد تجسد هذا المعنى في مواقف عديدة عبر أيام تاريخنا المجيد، فحين احتال يهودي خبيث خسيس لكشف ساق امرأة مسلمة في سوق بني قينقاع لم يجد الصحابي الجليل الذي رأى هذا ما يروي غليله سوى قتله، وعندها ثار عليه اليهود فقتلوه رضي الله عنه، وكان هذا سببًا لوقوع غزوة بني قينقاع، وإجلائهم إلى غير رجعة عن هذه البقاع الطاهرة.

وحين صرخت مسلمة في أقصى الأرض: وا معتصماه جهَّز لها المعتصم جيشًا جرارًا لدفع مظلمتها، وتأديب من اعتدى عليها.

بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخف لنصرة مخالفيه في العقيدة؛ التزامًا بميثاق المناصرة المعقودة بينه وبينهم، وهذا ما حدث مع خزاعة حين قدم عليه صلى الله عليه وسلم عمرو بن سالم يشكو اعتداء بني بكر عليهم ومظاهرة قريش لهم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحال: "نصرت يا عمرو بن سالم"، وانطلقت على إثرها كتائب الفتح الأعظم، فدانت لها مكة بما فيها، فإذا حدث هذا وفاءً بكلمة أعطيت لفصيل من المشركين؛ فماذا يوفي بحق عقد الإيمان وآصرة العقيدة، لا شك أنه أغلى وأولى خاصة، بعدما سمعنا قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)﴾ (الأنفال).

د- كيف تتحقق النصرة؟

إن أول مقتضيات النصرة الواجبة للمظلومين أن نشاركهم بمشاعرنا، وأن نعيش معهم بوجداننا مسار التظالم والظلمات الذي يخوضونه موقفًا بموقف.

وحين نطوف بخيالنا مع هذه المشاهد تتأثر الأفئدة، وتلهج الألسنة بالدعاء لهم بالتأييد والإنجاء والتفريج والدعاء كذلك على من ظلمهم...

ومن النصرة كذلك إحاطة أهلهم بالمشاعر الأخوية الصادقة، والقلوب الحانية، ومساندتهم معنويًّا وماديًّا، وتعهدهم بالبر والسؤال والخفة لخدمتهم وقضاء حوائجهم.

ومن النصرة سلوك كل سبيل وطرق كل باب، واتخاذ كل وسيلة- في الإطار الحكيم الرشيد- لتظل قضيتهم حية، وحاضرة في الدوائر المختلفة (المسئولون، والقضاء، والإعلام، وحقوق الإنسان، والجماهير..... إلخ).

ومن النصرة كذلك تبني المواقف الداعمة لنصرة المظلومين ومحاربة الظلم، وتأييد الفعاليات التي تتبنى هذه القضية سواء كانوا أفرادًا أم كيانات.

وختامًا.. دعاء وابتهال إلى الله تعالى أن ينصر المظلومين ويفرج عنهم، وأن يذل الظالمين وينتقم منهم، وأن يأتي اليوم الذي لا يكون في ديار المسلمين مظلوم... وحسبنا الله ونعم الوكيل.