بقلم د. منى صبحي

رئيسة المنتدى العالمي للفكر والثقافة

وعن تفاعل الطفل مع الأحداث التي تمر بها الأمة، وأهمية صياغة الوجدان والمشاعر لديه بشكل إيجابي، وغرس القيم في جهد مرتب ومتدرج تعود بي الذاكرة الى أكثر من خمسين عام مضت، أوائل السبعينيات، عندما كان شارع اسكندرون في حي الجميلية (الذي ولدت وعشت فيه طفولتي) يرتج من قارعي الطبول، وحملة المشاعل، وهتافات الشباب التي تطالب بالحرية في فعاليات شبه يومية .. كانت الموسيقى الحماسية كفيلة بخروج معظم الأطفال إلى الشارع، مع تحذيرات مشددة من الأهل بأن لا نتجاوز الرصيف، ولكن مع انتهاء المسيرة كان عليهم مواجهة طوفان أسئلتنا الغضة عن الحرية والبطولة والكرامة وغيرها من صيغ الهتافات، وأن يغضوا الطرف عن تشاركنا وأطفال الجيران في صنع مشاعل، تصاحبها هتافاتنا في حديقة البيت الخلفية إلى أن تبح حناجرنا، وتكل أيادينا، ويحين موعد النوم.

في مرحلة بواكير الصبا كانت قصة المبدع غسان كنفاني (اغتيل في بيروت ١٩٧٢ عن ٣٦ عام) عن: الطريق الى صفد، من القصص التي حلقت بي في عالم مترع بالألم ومفعم بالأمل معا، وتحكي عن مأساة الاحتلال للأرض المباركة، وما صاحبها من تهجير وابادة وحشية بعد عام ٤٨ ..لا أذكر تسلسل الأحداث كما سجلها بقلمه المؤثر، ولكن الذي علق في ذهني مشهد شارع رئيسي (ربما يشبه شارع اسكندرون) ، يجوبه الشباب ببنادقهم وأشواقهم للحرية، وكيف استيقظت تلك المرأة طريحة الفراش من عجز أصابها إثر شظية، وأخذت تسأل من حولها: هل تسمعون ما أسمع؟ هل أتوا؟ ..ولم تتمالك نفسها وأخذت تزحف أرضا حتى وصلت الباب، وخُيّل لمن حولها أنها بدأت تقف على رجليها، وقد دبت فيهما الحياة!

وتتجذر تلك القيم مع اتساع مدارك الطفل؛ فتكون القصة المؤثرة بما تتضمنه من أحداث ووقائع وشخوص ملهمة ومثرية معا، وتاريخنا البعيد والقريب يزخر بنماذج فذة لا تحصى، تحتاج من الآباء والأمهات والمربين الاطلاع عليها، وتبسيطها للأبناء حسب مراحلهم العمرية، وقدراتهم على التلقي والاستيعاب، ومن ثم التفاعل.

لقد بدأت مع حفيدتي ذات الخمسة أعوام - وقد شُغفت بأناشيد القسام، وسؤالها المتكرر: من هو؟- بوضع حزمة صغيرة من القيم، تبدأ من غرس قيمة الانتماء للأسرة الصغيرة، ثم الكبيرة، ثم المجتمع، ثم الأمة .. ومن قيمة الانتماء الى معنى الأمان، وكيف ندافع عن أماننا، وأمان تلك الدوائر من أي تهديد .. وبعدها سنرسم معا الخط الفاصل بين الحق والباطل، وكيف نميز بينهما وننتصر للحق.

بدأنا .. ربما علاقة الأجداد مع الأحفاد تضفي أبعادا تعين الآباء

ولنا في عالم الطفولة حكايات لطيفة تساعد على غرس ورعاية تلك البذور، وصيانة نقاء الفطرة على أمل أن تخرج الأجيال الناشئة، لا يوهن عزماتها تقصير الغافلين، وحماقة المخذلين، وكيد المتربصين!