د. علي محمد الصلَّابي

للعلماء دور بارز في إحياء روح التعاضد، وعقيدة الجهاد والتصدي، والمقاومة ضد العدو الغازي، ويتفق العلماء الربانيون بأن الجهاد لا يبرح عن هذه الأمة، حتى يرث الله الأرض وما عليها، وقد كان الإمام المجاهد والعالم الزاهد الشيخ العزُّ بن عبد السلام عَلماً من أعلام الأمة في العقيدة والإصلاح، وفي الدعوة للتصدي للحُكام المستبدين، والغُزاة الطامعين

1.     من هو الشيخ العزّ بن عبد السلام؟

هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، ثم المصري داراً ووفاة، والشافعي مذهباً، وهو يُكنى بأبي محمد، ولقب بعدة ألقاب: بعز الدين، وشاع بين الناس، الإمام العز، ولقب بسلطان العلماء، لقبه به تلميذه ابن دقيق العيد، كما لقب بشيخ الإسلام، وولد الإمام العزّ بن عبد السلام في دمشق عام 577هـ – 1181م، وعاش فيها، وبرز في الدعوة والفقه.

وكان يعيش في أسرةٍ فقيرة مغمورة، ولم يكن لها مجد، أو سلطان، أو منصب، أو علم. وقد انشغلت أسرته بطلب الرزق عن طلب العلم، وحين شب العزّ، ساعد أباه في بعض الأعمال الشاقة؛ إصلاح الطرق، والتنظيف أمام المحال التجارية، وعندما مات الأب، ولم يجد من يؤويه، توسط له الشيخ فخر الدين ابن عساكر، للعمل في الجامع الأموي، فساعد الكبار في أعمال النظافة، وكان ينام ليلًا في زاوية بأحد دهاليز الجامع على الرخام، وفي ظل هذه الظروف الصعبة لم يستطع العز أن يطلب العلم في الصغر، لكنه كان يشاهد حلقات العلم في المسجد بحكم عمله فيه، وكم تمنى أن يكون بين التلاميذ، إلى أن تعهده ابن عساكر، وأمر بتعليمه القراءة والكتابة، وحفظ القرآن، وأقبل العزّ على الكتب بشغف كبير، وعوّض ما فاته من سنين التعلم، إلى أن اطمأن ابن عساكر لمستواه، وضمه لحلقات درسه بعد أن دفع إليه ما يعينه على شراء ثوب صالح لحضور جلسات العلم

ترك العز بن عبد السلام تراثًا ضخمًا في علوم التفسير والقرآن والحديث، والعقيدة وأصول الفقه والزهد والتصوف، منها: «التفسير، الفتاوى المجموعة، الأمالي، والفتاوى الموصلية، المجاز في القرآن، مختصر الرعاية، الغاية في اختصار النهاية، قواعد الإسلام، القواعد الكبرى في فروع الشافعية، القواعد الصغرى، الإلمام في أدلة الأحكام، شجرة المعارف. وقال فيه الإمام النووي: "العز بن عبد السلام الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته".

2.     دور الشيخ العز بن عبد السلام في المقاومة والتحرير الإسلامي

عاش الشيخ العزّ بن عبد السلام في زمن سادت فيه الاضطرابات والأزمات السياسية، وكان عصر انهيار الخلافة العباسية، والتمزق الإسلامي، وتكالب الصليبيين والمغول على أراضي الأمة، وفي هذه الظروف فضّل كثيرون من أهل العلم والدين السكوت عن الحق، واعتزال المشهد العام، في حين انخرط العزّ في قلب هذه المعمعة، مقدمًا صورة مغايرة لعالم الدين الذي يُجاهد في سبيل الله، ولا يخشى في الله لومة لائم.

نال الشيخ العز بن عبد السلام شرف الجهاد، وكان يدعو إليه، ويكتبه في كتبه، ورسائله، وهو القائل في رسالة الاعتقاد: الجهاد ضربان، ضربٌ بالجدل والبيان، وضرب بالسَّيف والسِّنان، ولكن قد أمرنا الله بالجهاد في نصرة دينه، إلا أنَّ سلاح العالم علمُه، ولسانه، كما أنَّ سلاح الملك سيفه، وسنانه، فكما لا يجوز للملوك إغماد أسلحتهم عن الملحدين والمشركين، لا يجوز للعلماء إغماد أسلحتهم عن الزائغين، والمبتدعين، فمن ناضل عن الله، وأظهر دين الله؛ كان جديراً أن يحرسه الله بعينه التي لا تنام، ويُعزَّه بعزِّه الذي لا يُضام، ويحوطه بركنه الذي لا يُرام، ويحفظه من جميع الأنام.

وقام العز بجهاد العلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعرَّض نفسه للمخاطر الشديدة، والأهوال العجيبة، وعُزل بسبب ذلك، وتعرض للاعتقال نتيجة معارضته للسلاطين، منها موقفه مع الملك الصالح إسماعيل حاكم دمشق عندما تحالف مع الصليبيين ضد ابن أخيه حاكم مصر، وقد أفتى العز بحرمة البيع للصليبيين، وحينها أمر الصالح باعتقاله، فغضب الناس وامتعضوا، ليتم الإفراج عنه.

وللشيخ العزّ موقف آخر في مبايعة الظاهر بيبرس، فعندما أراد الظاهر بيبرس أن يستلم السلطة والحكم، استدعى الأمراء والعلماء لمبايعته، وكان بينهم العز بن عبد السلام الذي فاجأ الظاهر بيبرس بكل جرأة وشجاعة وقال له: «يا ركن الدين، أنا أعرفك مملوك البندقدار»، أيّ لا يصح مبايعة المملوك في استلام السلطة، فأحضر بيبرس ما يثبت أن البندقدار قد وهبه للملك الصالح أيوب، وأن الصالح أيوب قد أعتقه، وهنا تقدم العزّ، وبايعه على الملك، وكان الظاهر بيبرس «يعظم الشيخ العزّ، ويحترمه، ويعرف مقداره، ويقف عند أقواله وفتاويه.

شارك العز بن عبد السلام عمليًا في الجهاد ضد الصليبيين الذين اتجهوا لاحتلال دمياط وسائر مصر بعد أن وصلوا إلى المنصورة في حملة صليبية جديدة سنة 647 ه، بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع، فاستولوا على دمياط ووصلوا المنصورة، وهناك هُزم الصليبين وتم أسر لويس التاسع، وكبار قواده. وقد كان للشيخ العزّ دور مهم فى معركة المنصورة، يقول ابن السبكى: «وكان الشيخ العزّ بن عبدالسلام مع العسكر، وقويت الريح، فلما رأى الشيخُ حالَ المسلمين نادى بأعلى صوته مشيراً بيده إلى الريح (يا ريحُ خُذيهم) عدة مرات، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثرُ الفرنج، وصرخ من بين يدى المسلمين صارخ: الحمد لله الذى أرانا فى محمد رجلاً سخّر له الريح»، وكان النصر المبين للمسلمين، واعتبر المؤرخون هذه الصيحةَ من كرامات العز بن عبدالسلام.

ولم يتأخَّر الشيخ العزّ عن الدَّعوة إلى جهاد المغول، والمشاركة في الإعداد له عندما هدد العدو بلاد المسلمين، وأرضهم، وأنفسهم، وأموالهم، ودينهم، وقد شهد الناس بمواقف العزّ بن عبد السلام، ودعوته الشهيرة لمواجهة التتار، وشحذه الهمم لخوض الحرب ضد الغزاة، وموقفه مع قطز قائد جيوش السلطان عز الدين أيبك في ذلك الوقت، غير أن هذا الموقف مجرد نقطة في بحر جهاد سلطان العلماء، وبعد وصول قطز لسدة الحكم في مصر ظهر خطر التتار، فعمل العز على تحريض الحاكم واستنفاره لملاقاتهم، وقد أمر قطز بجمع الأموال من الرعية للإعداد للحرب، وقف العز في وجهه، وطالبه ألا يأخذ شيئًا من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم، وذهبهم، والمقادير التي تتناسب مع غناهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق، فإذا لم تكف هذه الأموال الإعداد للمعركة، فليفرض ضرائب على الناس، فنزل السلطان المظفر قطز على رأيه وفتواه.

لم يخلٌ عصر من عصور الإسلام من العلماء الدعاة الذين يأخذون بيد الأمة في ظلام الليل البهيم، وعند اشتداد الخطب واضطراب الأمور، يقومون بواجبهم الديني والأخلاقي في حمل الأمانة ونشر العلم، ومواجهة الظلم، وتصويب الخطأ، وقام العلماء الأفذاذ بهذه السنة الحميدة، استشعاراً للمسئولية، وتقديرًا للأمانة، وإدراكًا لعظم دورهم باعتبارهم طليعة الأمة، وكان من أولئك العلماء العاملين الشيخ الإمام العزّ بن عبد السلام، وقد قام بواجبه في خدمة دينه وأمته الإسلامية.

وقد استمر الشيخ العزّ بعلمه، وحب الناس له، إلى أن وافته المنية عام 660 هـ/1262م، وهو يبلغ من العمر ثلاثًا وثمانين عامًا، ومما يُروى أنه عندما بلغ السلطان المملوكي الظاهر بيبرس وفاة الشيخ العزّ، قال: «لم يستقر ملكي إلا الساعة، لأنه لو أمر الناس فيَّ ما أراد لبادروا إلى امتثال أمره». وخلاصة القول: كان العزَّ بن عبد السلام مدرسةٌ في فهم مقاصد الشريعة، وفقه المصالح والمفاسد، وسنن الله في الأخذ بالأسباب والتمكين، وقد ساهم في وحدة الأمة وجهادها في شتى المجالات: فقهياً، وفكرياً، وسياسياً، وأخلاقياً، وإنسانياً.