بقلم: محمد خير موسى
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
خلق الله تعالى الإنسان من عقل وروح وجسد، وجعل لكلٍّ من هذه المكونات الثلاثة غذاءه الذي به تقوم حياته، فالعقل غذاؤه الفكر والتفكير، والروح والقلب غذاؤهما الحبّ والعاطفة، والجسد غذاؤه من الطعام والشراب والرياضة.
وجعل الله تعالى للجسد تنبيهًا للدماغ في حال الاحتياج للطعام والشراب، والشعور بالجوع والعطش وعدم القدرة على احتمالهما، لتستمر الحياة؛ بينما ترك غذاء العقل وغذاء القلب والروح، وبقيّة غذاء الجسد من الرياضة البدنية، لاختيار المرء ذاته وقراره بمفرده. والمؤمن الحقّ يعلم أنّ تغذية مكوناته من العقل والروح والجسد تخضع لمنطق الميزان، الذي أمر الله تعالى به في كتابه الكريم إذ يقول: {والسَّماء رفعها ووضَع الميزان* ألاَّ تَطغَوْا في الميزان* وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخْسِروا الميزان} [الرّحمن: 7ـ9].
فتغليب غذاء مكوّن على آخر يدخل في التطفيف المنهي عنه، والذي توعد الله تعالى فاعليه بالويل، فمن غلّب غذاء العقل وأهمل غذاء الروح دخل في التصحر الروحي وجفاف العاطفة وقسوة القلب، ومن اهتم بغذاء القلب والروح مهملًا غذاء العقل والفكر عاش في السذاجة؛ سذاجة الموقف وسذاجة المحاكمات وسذاجة الأفعال والانفعالات، وأما من جعل همّه غذاء جسده من طعام وشراب مهملًا غذاء عقله وروحه وقلبه، فقد أدخل نفسه في البهيمية التي تتمركز حول الجسد وملذاته؛ وكل هذا من التطفيف الذي قال الله تعالى في فاعليه: {ويلٌ للمُطفِّفين* الَّذين إذا اكتالوا على النَّاس يَسْتوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخْسِرون} [سورة المطففين: 1-3]. ولئن كان تطفيف الإنسان مع غيره مما يستحق الويل والثبور والوعيد؛ فإن تطفيفه مع نفسه أشدّ ويلًا وأحقّ بالوعيد.
والمرء العاقل هو الذي يبحث عن مواطن تغذيته التي تغذي عقله وروحه بحقّ دون أن تملأهما بالشبع الوهميّ؛ فكثير من الفكر الذي يُحشى به العقل فكرٌ وهمي، وكثير من العاطفة التي تُملأ بها الروح والقلب عاطفة سامّة أو وهمية، تعود على صاحبها بالضرر أو بالآثار السلبية، أو بالتعب بلا جدوى على أقل تقدير.
ولو تفرّس الإنسان في واقعه، لوجد غذاء عقله وقلبه وروحه وجسده في مواطن كثيرة ومصادر شتى متفرقة متناثرة؛ فكثير من المصادر اختصت بتغذية العقل والفكر دون غيره، ومصادر أخرى مكتوبة ومرئية ومسموعة اختصت بتغذية القلب والروح. ولكنها قليلة جدًا – بل نادرة- تلكم المصادر التي يجد المرء فيها بغيته كلها من تغذية مكونات جسده الثلاثة مجتمعة، ورسْم طريق بنائها والقيام بشؤونها، ولا يختلف اثنان أن في مقدمة تلكم المصادر الجامعة لغذاء الإنسان بكلّ مكوناته القرآن الكريم، وتأتي بعده مباشرة السيرة النبوية.
وإن أهمّ ما يميّز سيرة النبي صلى الله عليه وسلّم، وهي تقدّم للمسلم غذاء عقله وغذاء روحه وترسم له طريق غذاء جسده، أنها تفعل ذلك من خلال المواقف العملية التفاعلية، فهي لا تقدّم غذاء العقل بوصفه فِكَرًا صماء أو تعليمات نظرية مجرّدة، ولا تقدم غذاء الروح والقلب بوصفه عاطفة نظرية مسكونة بالعبارات والألفاظ؛ بل إن الفكرة في عالم السيرة النبوية شخص يتحرك بين الناس ويعيش معهم، والعاطفة الروحية والقلبية مواقف عملية، لا محض مشاعر يطيّرها الهواء وتعبّر عنها القصائد والكلمات.
فعندما يمخر عقلُ المرء عُباب السيرة النبويّة ويغوص في لجّتها، فإنه يجد في أعماقها صيدًا ثمينًا لعقله وفكره، يبدأ من إيجاد الإجابات عن الأسئلة الوجودية التي تطرق عقل الإنسان من لحظات نشأته؛ الأسئلة المتعلقة بالكون والحياة والغاية من الوجود والمآل بعد الوجود.
كما أن العقل يجد ذاته في ظلّ حمّى الحديث عن أزمة العقل المسلم، وإعادة تشكيل العقل المسلم وتكوين العقل العربي؛ فإن تشكيل العقل المسلم على الفكرة والمرجعية الإسلامية، في ظلّ محاولات فرض العقلية الليبرالية ونتاج الفكر الحداثيّ عليه، يكون من خلال النظر العميق في تفاصيل السيرة النبوية وأحداثها، التي شكّل من خلالها النبي صلى الله عليه وسلّم العقل المسلم، في نظره للذات ونظرته للمحيط المؤمن بالفكرة ونظره للآخر الذي لا يؤمن بها؛ فالسيرة النبويّة تمثّل للعقل المسلم المرجعيّة الفكرية في ظلّ تصادم المرجعيات، ومحاولات فرض مرجعيات فكرية على الشباب المسلم في ظلّ الضعف الذي تعيشه أمّتهم.
ثم إن العقل المسلم يتزوّد من خلال تجواله في أحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلّم بمنهجيات التفكير المختلفة؛ كالتفكير التحليلي والتفكير التعليلي والتفكير المقاصدي والتفكير النّاقد، ومنهجيات المحاكمات العقلية للمسائل الفكريّة من خلال مواقف عمليّة مورس فيها الاستقراء والاستنتاج والمماثلة، كما يجد العقل فيها مهارات الجدل والمناظرة والحوار بطريقة تنفيذية تطبيقية في حوار النبي صلى الله عليه مع أعدائه تارةً أو مع المنكرين لدعوته تارةً أخرى، أو المثيرين للشبهات حولها تارةً ثالثة، بل إننا نجد تجسيد هذه المحاكمات في حواراته مع المسلمين الحائرين من شدّة العذاب والبلاء في مكة، أو المنتظرين أن يتنزّل الوحي في المدينة.
كما ترسم السيرة للعقل بطريقة تنفيذية تطبيقية مهارات التخطيط والأخذ بالأسباب بتفاصيلها الدقيقة؛ ابتداء من التخطيط والاحتياط الأمني في أحداث كثيرة، لا تبدأ من اتخاذ دار الأرقم في مكة المكرمة مرورًا بالاحتياطات في بيعة العقبة الثانية، وكذلك الهجرة النبوية الزاخرة بمعاني التخطيط، ولا تنتهي عند فتح مكة وما فيها من معاني التخطيط الدقيق، كما ترسم لأهل الفكر والتخصص معالم التخطيط السياسي والعسكري والاقتصادي في الأحداث المختلفة.
والسيرة النبوية تبني في المجتمع العقل الجمعي، القائم على إعلاء شأن التخصص وبناء التخصصات الفكرية والتنفيذية، وقد كان ذلك في بيئة كانت تفتقر للتخصصات الواضحة؛ فقد جعل النبيّ صلى الله عليه وسلّم ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ زيد بن ثابت متخصصًا في الترجمة وعلوم المواريث، بينما جعل معاذ بن جبل متخصصًا في الفقه، وعليّ بن أبي طالب متخصصًا في القضاء، وأبيّ بين كعب متخصصًا في إقراء القرآن الكريم، وخالد بن الوليد متخصصًا في القيادة العسكرية، والحباب بن المنذر متخصصًا في الطبوغرافيا العسكرية.
وفي السيرة النبوية يجد المرء منهجية التعامل مع الفِكَر الوافدة من الآخرين ومعايير قبولها أو رفضها، وهذا من أشدّ ما يحتاجه الشباب في عصر الانفتاح الواسع، بل التدفق الحضاري في عصر الانفجار التواصلي؛ ففي الوقت الذي رفض فيه النبي صلى الله عليه وسلّم اتخاذ الناقوس والبوق وسيلة وأداة للدعوة إلى الصلاة فإنّه قبل فكرة الخندق ونفّذها، ومثل هذا العديد من مواقف السيرة النبوية، التي تفرّق بين الفِكَر الوافدة التي تؤدي إلى محو الهوية أو إذابتها والفِكَر التي تعدّ من التواصل الحضاري والإثراء الفكري.
هكذا تقدّم السيرة النبويّة الغذاء الشافي للعقل والفكْر، في زمن الأغذية الفكرية المعلبة أو منتهية الصلاحية، وفي زمن البلطجة الفكرية وفرض المرجعيات.. وأمّا منهجية السيرة النبوية في تغذية الروح والقلب وتغذية الجسد؛ فهذا ما نتحدث عنه تفصيلا ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم.