(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: 185).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
هنيئًا لنا رمضان .. شهر الصبر والنصر
هنيئا لهذه اﻷمة قدوم شهر الصوم، شهر الجهاد والبذل، شهر الطاعة والصبر، شهر تفضل الله فيه على عباده فأنزل لهم خير كتاب، وأكرمهم فيه بليلة هي خير من ألف شهر، ومنَّ عليهم فيه بفتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا جاء رمضانُ فتحتْ أبوابُ الجنة وغلقتْ أبوابُ النار وصُفِّدت الشياطين) رواه مسلم.
إنه رمضانُ الانتصارات وزادُ المجاهدين، أمدّ الله فيه عباده الصالحين المصلحين بخيراتٍ عظام، ومِنَنٍ كرام، ففيه ينتصر المؤمنون على أنفسهم، فهي ميدانهم الأول؛ فإن انتصروا عليها كانوا على غيرها أقدر، وإن عجزوا كانوا عما سواها أعجز .
وقد انتصر صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في مدرسة رمضان على أنفسهم وسار مَن بعدهم على دربهم رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمنات فنصرهم الله على عدوهم، فغيَّروا وجه التاريخ وصنعوا للأمة أمجادًا عظيمة، فتعددت وتوالت انتصارات الشهر المبارك، وكان أولها غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة، وكان فتح مكة، وغزوة تبوك، ومعارك القادسية والبويب، وفتح رودس، وفتح الأندلس، ومعركة بلاط الشهداء، وفتح عمورية، وعين جالوت، ومعركة حطين، وصولًا إلى معركة العاشر من رمضان عام 1393 هجرية (السادس من أكتوبر 1973م)، حيث كُسِرتْ أسطورةُ الجيش الذي لا يُقهر، وحيث تكرر كسر تلك اﻷسطورة المزعومة أمام إرادة التحرر وقوة المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر الفائت، وقد عد المؤرخون من انتصارات المسلمين في رمضان أكثر من 185 انتصارًا.
وهذه انتصارات تتحقق- كما قال الإمام البنا -رحمه الله-؛ لأنه شهر الإرادة القوية، التي تورث الحرية الصحيحة، ولأنه شهر الروحانية الكاملة التي تُورِثُ السخاءَ والجود بأعراض المادة، وكما قال المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي -رحمه الله- في مَعرِض حديثه عن أغراض الصوم أن الغرض منه ترفُّع النفس الإنسانية عن شهوتها وتهيئتُها لعظائم الأمور وتعويدُها الصبر والاحتمال، وإثباتٌ لعظمتها وقدرتها على التغلب على الحاجات والأهواء.
فهلَّا جعلنا هذا المعنى نَصْبَ أعيننا، فندخل مدرسة رمضان لنحيي في نفوسنا كل معاني العبادة الخالصة، والاستعلاء بالإيمان، وتحرير النفس من قيودها الأرضية؛ لتجيب نداء ربها وتظفر بعز الدنيا ونعيم الآخرة؟
ما أحوجنا جميعا إلى أن نراجع تاريخنا المجيد فى شهر رمضان وندرس سيرة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- والتابعين من بعده فى هذا الشهر العظيم، الذي شهد أمجادًا وانتصارات نسال الله تعالى أن نعيد كتابتها من جديد.
هيا نوحّد المشاعر، بعدما وحدتنا الشعائر .. فلسطين وجهتنا
وفي شهر رمضان تتوحد المشاعر كثمرة حقيقية لوحدة الشعائر، وتتجلى قضية الأمة المركزية (قضية فلسطين) الحبيبة في القدس وفي الضفة وفي غزة، حيث الصمودُ البطولي والثبات على المبدأ والتشبث بالحقوق والتمسك بالأرض كما العرض، حيث يقف الشعب الفلسطيني البطل المغوار في وجه قوى التجبر في العالم، متسلحًا بقوة الإيمان، يصبر على اللأواء ويتجرع الآلام دون أن يعطي الدنية في دينه أو وطنه أو حقه المشروع في الاستقلال والحرية.
وإذا كان واجب النصرة على المسلم تجاه أخيه المسلم حاضرًا في كل زمان ومكان فهو في شهر رمضان أوجب، وهو تجاه فلسطين أشد وجوبًا، حيث القدس والمسجد الأقصى المبارك في أعتى مواجهة ضد عدو غاشم متغطرس لا يراعي حُرمة ولا يحترم قيمة.
إن الامتناع عن الطعام والشراب في نهار رمضان لن يسقط عن الصائم الحرج الشرعي ولن يبلغ به الغاية من أداء الفريضة إذا امتنع عن مساندة إخوانه أو أغلق المعابر وحرمهم من الطعام والشراب والدواء، أو رضي بذلك الإغلاق والمنع والحرمان، أو سكت عن أتباع الصهاينة الذين يفعلون هذا الفعل المجرّم دينًا وقانونًا ومروءة؛ مصداقًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به) (رواه الطبراني).
لقد كانت روح الإيمان الحقيقي التي يولِّدها الصيام في نفوس الصائمين وشيجةً بين شعائرهم ومشاعرهم، وبين صيامهم ودعمهم، وبين دعائهم وبذلهم، وبين قيامهم وتضحياتهم، وبين ذكرهم وروحهم الوثّابة، وهذا ما يخشاه منهم الاحتلالُ الصهيوني ويتخوف منه داعموه في العالم ويتحسب له مساندوه من أبناء جلدتنا ممن يتسمَّون بأسمائنا ويتكلمون بألسنتنا وهم في حقيقة الأمر أشد وأنكى لنا من أعدائنا.
إنهم جميعًا يخشون رمضان ويتحسبون قدومه ويخافون روحه التي تسري في قلوب المسلمين فتحييها، ويدركون أثر رمضان على الأمة وعلى المجاهدين في أرض الرباط، ويعلمون تاريخ النصر والغلبة التي تكون للمسلمين في رمضان.
إن صيام رمضان بلا مؤازرة للمجاهدين أو مواساة للضعفاء أو مواساة للمصابين أو استشعار للتبعة؛ إنما هو جسد بلا روح، وشعيرة بلا تقوى، لن تثمر يقينًا ولن تحقق مردودًا ولن تصلح نفسًا، فالبذلَ البذلَ وإلا فغضب الله، والمساندةَ لإخواننا وإلا فلن يرحمنا التاريخ إذا فرطنا، فلنشمر للأعمال الصالحة ونري الله من أنفسنا خيرًا، فلعلنا نكون بين يدي شهر يُتم الله فيه النعمة ويفرِّج فيه الكروب ويتمّ الله فيه على إخواننا المجاهدين النصر والتمكين.
لي فيك يا رمـضـان أمـالٌ معلقةُ جلاءُ همٍّ في الأعمـاق قد سكنَ
واجبٌ علينا ألا ننسى إخواننا من دعواتنا فى الخلوات والقيام في رمضان، وكذلك نبذل لهم ما استطعنا من أموالنا التى استخلفنا الله عليها، ونقتطع من مواردنا لنسد حاجتهم، ولا نكف عن الضغط على حكام بلادنا لإدخال ما يحتاجونه من غذاء ودواء وباقي مستلزمات الحياة، ولا نبرح ميادين الجهاد بمقاطعة منتجات أعدائنا، ونشر القضية بكل ما استطعنا من قوة وبكل الوسائل المتاحة.
البيوت من أبوابها.. والأوطان لشعوبها لا مستبدّيها
وفي مصرنا الحبيبة تستمر سلطة الانقلاب في إحكام الأزمات وتشديد وطأة الحصار على أهل مصر- تمامًا كما يحاصرون أهل غزة- وذلك بالديون تارة، وبغلاء الأسعار وشح السلع تارة أخرى، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر واتساع دائرة من يعانون الجوع، في ظل حالة غير مسبوقة من قمع الحريات، ومصادرة للحياة السياسية وضياع للقيم الاجتماعية والمصالح الاقتصادية، وارتفاع في معدل الجريمة، وتراجع كامل للدور الإقليمي والدولي للدولة المصرية؛ لتفقد مكانتها كلاعب رئيس في المنطقة.
وإلى جانب ذلك تواصل السلطة الفاسدة مسلسل بيع المقدرات والأصول لجهات أجنبية بشكل مشين وبعيدًا عن إرادة الشعب أو رقابته الحرة، فإذا بها تبيع منطقة رأس الحكمة التي تمسك بمساحة 50 كم شواطئ من أنقى المياه في البحر المتوسط، إضافة إلى الموقع الإستراتيجي والأمني على الحدود الشمالية الغربية لمصر، وكأنها محافظة جديدة تُولَد بعيدًا عن سيادة مصر، ثم تستعد لبيع رأس جميلة بمساحة 860 ألف متر مربع -قبالة مضيق تيران- بنفس الطريقة، كما تمهد لبيع الموانئ والمطارات، دون الرجوع إلى الشعب، ودون الإفصاح عما تنطوي عليه عملية البيع من شروط أو بنود، بما يشكل تهديدًا خطيرًا على أمن مصر القومي، ويهدر ويهدد مستقبل الأجيال القادمة.
إن الجرائم التي ترتكبها هذه السلطة منذ أن استولت على الحكم بالقوة بعد انقلابها على الرئيس الشرعي الدكتور محمد مرسي (رحمه الله) عام 2013م، إنما تستهدف إخراج مصر الكبيرة من المعادلة السياسية إقليميًّا ودوليًّا، وإعاقة وعرقلة نهوض الشعب المصري؛ بإتلاف مقدراته، ومصادرة مستقبله وأمنه القومي، وعرقلته عن القيام بدوره التاريخي في نصرة إخوانه في فلسطين المحتلة، والقيام بدوره في حماية أمنهم وأمن مصر القومي.
إن كل المصريين الشرفاء، وفي القلب منهم جماعة الإخوان المسلمون، كانوا وما زالوا يرفضون كل الإجراءات التي تبدِّد -بالفساد وبعيدًا عن إرادة المصريين الحرة والفاعلة- مقدرات الوطن، وتنال من سيادته؛ إذ لا معنى ولا منطق وراء إغراق الدولة في الديون ركضًا وراء إنجازات وهمية معجونة بالفساد، ثم العودة والالتفاف من مكان آخر لبيع الأراضي؛ لأجل سداد ديون النظام الفاسد، فضلًا عن تسويق ذلك باعتباره إنجازًا عظيمًا بينما تتعمَّق معاناة المصريين فلا يزدادون إلا فقرًا.
وإن من الواجب علينا أن نعلن للعالم بأسره أن تراب الأوطان ليس للبيع أو التفريط لمجرد الحفاظ على كراسي السلطة ومصالح الفاسدين، وأن ما يتم الآن من بيع لمقدرات وطننا لا يلزمنا كشعب وكأمة.
ونريد أن نؤكد أن لهذا الوطن صاحبًا وحيدًا، وهو الشعب، صاحب السلطة والثروة، وأنه وإنْ غاب صوته تحت إرهاب القوة وتزوير الإرادة؛ فإن صمته لن يدوم طويلًا، وأنه يومًا سينتفض، وتكون كلمته هي الأعلى، وسيسترد حقوقه التي سلبتها منه سلطة غير شرعية، وسيحمي مقدراته وثرواته ويحرم منها كل باغٍ وطامع: (اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سورة يوسف: 21).
إننا في ظل هذه الأزمات الاقتصادية الطاحنة والتي يعاني منها المواطن أشد المعاناة يتوجب علينا أن نعلي قيم ومعاني التكاتف والتعاون بين إخوة الوطن الواحد؛ فالمؤمنون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، وليطمئن كل منا على جيرانه وأحبابه، ولنحافظ على لحمتنا ونسيجنا الاجتماعي القوي بفضل الله تعالى.
كما نوجه الدعوة لمؤسسة الأزهر الشريف للقيام بدوره المنوط به؛ انطلاقًا من مبادئ ديننا الحنيف، وانطلاقًا من تاريخ الأزهر في مساندة الشعوب؛ للتحرك والضغط على هذه السلطة من أجل فتح المعابر وفك الحصار الجائر عن إخواننا في غزة؛ فالتاريخ لن يرحم المتخاذلين.
أحكام الإعدام والمشروع الصهيوني
وتأتي أحكام الإعدام الأخيرة ضد فضيلة المرشد العام للجماعه ونائبه وستة من قيادات العمل السياسي والدعوي لتؤكد أن هذه السلطة سادرة في غيها مستمرة في طريقها نحو مواجهة عنيفة لكل من يسعى لإصلاح مصر وإنقاذها من المصير الذي يقودها إليه المنقلب ومن معه.
إن هذه الأحكام التي تتزامن مع الاعتداءات الصهيونية على إخواننا في فلسطين والحصار الذي تفرضه السلطة في مصر على إخواننا في قطاع غزة إنما تأتي في إطار واحد، وتسير في مسار واحد؛ وهو الانحياز الكامل للاحتلال الصهيوني، وضرب كافة القوى والتيارات التي تحمل مشروع الحرية والاستقلال، وتسعى لمواجهة المشروع الصهيوني في المنطقة.
إن الخلاص من هذه الحقبة السوداء من تاريخ مصر التي انتهكت فيها كل القيم وديست فيها كل الأعراف، وأهدرت بها كل القوانين، وصودرت كل المبادئ؛ بات ضرورةً ملحة وأولوية لدى كل المخلصين لبلادهم، والحريصين على استقلال إرادتها وإعادة مكانتها، وهو ما يمكن أن يشكِّل ضربة موجعة للمشروع الصهيوني الذي يستند على مثل هذه الأنظمة في ترسيخ بقائه.
من أخبار الجماعة
ينظمُ "تلفزيون وطن" بالمشاركة مع عددٍ من المؤسساتِ الإعلاميةِ والحقوقيةِ مؤتمرًا افتراضيًّا تحت عنوان: (لا لأحكام الإعدامات الجائرة.. أنقذوا رجال الأمة).
ويركز المؤتمر على تفنيدِ القضية وعوارِها، وخطورةِ تسييسِ أحكامِ الإعدامات، والتأكيدِ على مكانةِ المحكومِ عليهم ودورِهم الوطني والإسلامي. كما يركز المؤتمر على الأدوار المجتمعية، ودور المؤسسات الحقوقية والدولية في وقف هذه الأحكام الباطلة، والتأكيدِ على سُبُلِ دعم المعتلقين ومساندةِ قضاياهم.
والله أكبر ولله الحمد
أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "
الأحد 29 شعبان 1445 هجرية الموافق 10 مارس 2024م