لا يأسَ مع الإيمان
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله . والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر من كل شيء في الوجود، من ظلم الظالمين وعدوان المعتدين، الله أكبر من جبروت المجرمين وتسلط الطاغين، ولله الحمد على تمام النعم كلها وتجدُّد عافيته على عباده، لله الحمد على البلاء وعلى الصبر الذي يُمِدُّ به عباده، ولله الحمدُ على خفايا لُطفه في الأمور وعلى تدبيره.
هكذا أمرَنا ربُّنا سبحانه وتعالى أن نقول في ختام شهر رمضان؛ حيث شرعَ الله لعباده أن يكبروه، فقال تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]. ولهذا تعلو الصيحاتُ وتلهج الألسنةُ في أرجاء الأرض تكبرُ اللهَ وتَحْمَدُه على نعمائه، وتَحْمَدُه في كل الأحوال؛ في السراء والضراء.
لقد مرّ شهرُ رمضانَ وها نحن أمام هلالِ شهرِ شوال ليسفر عن عيد الفطر؛ الذي حَقَّ فيه لكل المسلمين أن يفرحوا بل ويعلنوا فرحهم وبهجتهم بقدومه، فرحةَ إيمانٍ وفرحةَ عبادةٍ وفرحةَ صبرٍ وأمل؛ فالعيد في الإسلام مظهرٌ من مظاهره، وشعيرةٌ من شعائره المعظَّمة، والنفوسُ مجبولةٌ على حب الأعياد والسرور بها، وإن كانت في نفوسِ المسلمين هذا العام غُصَّةٌ وألمٌ لما يقاسيه إخوانُهم في غزة، والضفة، وفي السودان، إضافةً إلى الآلامِ المستمرةِ والجراحِ النازفةِ في سوريا واليمن، ورغم كل هذه الآلام حَقَّ لهم أن يفرحوا ويزدادوا إيمانًا بأن ما يحدث في غزة هو خطوةٌ نحو العيد الحقيقي للأمة الذي ستحتفي فيه بنصرِ ربها واستردادِ حقوقها وحريتها وصونِ مقدساتها: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّه} [الروم: 4-5].
إن عُلُوَ الباطلِ واستكبارِه لا يدوم، بل هو مقدمةٌ حقيقيةٌ لانتصار الحق، والناظرُ المعتبرُ في آيات القرآن يجد من قصص السابقين وسير الأعلام ما يحاكي واقعَنا ويفسِّره، ففي قصة موسى عليه السلام: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 4]، ويقول الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]. قال السعدي: "وأما النصرُ الحقيقي الذي لا معارضَ له، فهو مشيئةُ الله لنصر مَنْ يشاء مِن عباده، فإنه -إن شاء- نصر مَنْ معه الأسباب كما هي سُنته في خَلقه، وإن شاء نصر المستضعفين ليُبيِّنَ لعباده أن الأمرِ كلَّه بيده، ومرجعَ الأمورِ إليه“.
إن ما يَحِلُّ بإخواننا في غزة من حربٍ همجيةٍ ضروسٍ لا ينبغي أن تَفُتَّ مِنْ عَضُدنا أو تضعفَ إرادتَنا أو تحولَ بيننا وبين إدراك المعاني الحقيقية للنصر؛ فلا تهنوا ولا تيأسوا من تَلَوُّن أشكال العذاب التي حلت بإخواننا، فلسنا جميعًا أعز على الله- عز وجل- من نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- وما ذاقَه وصحابتُه -رضي الله عنهم- من ألوان العذاب والهوان، فالله تعالى هو الذي يحددُ الأثمان، وللتضحيات بإذن الله نتائج ملموسة، بل وأكيدة عند الله تعالى. فوعدُ الله- عز وجل- لا محالة واقعٌ؛ استخلافٌ، وتمكين. وإن كانت المحنُ تنزلُ بساحة المسلمين في شتى بقاع الأرض، والقلب يتفطر أحيانًا لما يرى أو يسمع، فكيف نتعاملُ مع هذه الآية الكريمة التي يقول اللهُ فيها: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) [النور: 55].
فلسطين.. عدالةُ القضيةِ في وجه الحمايةِ الدوليةِ للاحتلال
إن عدالةَ قضيةِ فلسطين مع صمودِ أهلها ستقف حائلًا وحاجزًا -بإذن الله- أمام اجتماع كل قوى الاستكبارِ العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تساند الاحتلالَ الصهيوني وتهدرَ حق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه وتقرير مصيره والحصول على حقه في الحياة، وتُمِدُّ المحتلَّ بالسلاح والعتاد من جهة، ثم تُؤمِّن له -من جهة أخرى- الحمايةَ الدوليةَ من أي قرارٍ يصدر بوقفٍ ملزمٍ للحرب الإجرامية، أو إدانةٍ للمذابح والإبادة الجماعية، فهي إما أن تنقُضَ القرار -عندما يصدُر- أو تفرِّغه من مضمونه وتقف حائطَ صدٍّ أمام إنفاذه، حتى باتت المنظماتُ الدوليةُ لُعبة في يد أمريكا تسيِّرها حيث أرادت وتتحكمُ في قراراتِها وتفرضُ عليها إرادتَها منفردةً دون اكتراثٍ بحقوق الشعوب.
إن المقاومةَ الباسلة في ربوع غزةَ والضفة هي التي يمكنُها أنْ تفرضَ واقعًا جديدًا وتصنع متغيرًا يعمل له الاحتلالُ ومن يقفُ وراءه ألفَ حساب، وهو ما ستسفر -بحول الله - عنه الأيامُ وتنكشفُ عنه الأحداث، حيث تظل مشاعلُ الثورة متقدةً في نفوس الأحرار وأصحاب الأرض، لن يطفئها اجتماعُ الباطل، طالما كانت قلوبُهم متصلةً بالسماء مرتبطةً بنور الله الذي لا يخبو، وانشرحت صدورُهم بفيض الإيمان به وجميل التوكل عليه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
كما أن الظهيرَ الشعبيَّ في طول الوطن الإسلامي وعَرْضه للمقاومة سيظل سياجًا وحماية وسندًا وظهيرًا يقدم لها الدعمَ الكامل ويَرْفِدُها بكل أنواع القوة، وهو الواجبُ الذي ينبغي على الشعوب أنْ تفعلَه، والدورُ الذي يتوجبُ عليها أن تضطلعَ به، دون تراخٍ أو ضعف، أمام جريمةٍ مكتملةِ الأركان وعدوانٍ اجتمعت عليه قوى البطش.
وإنَّ جماعة "الإخوان المسلمون" -إذ تثمِّن الحراكَ الشعبيَّ المناصرَ للقضية الفلسطينية والمؤيدَ لمقاومته والداعيَ لوقف اعتداء الصهاينة- لتدعو شعوبَنا إلى مزيد من الحراك والضغط على الحكومات؛ لكسرِ هذا الحصار الجائر وفتحِ معبر رفح -الذي يقع تحت سيطرة سلطة الانقلاب العسكري- لإدخالِ كافة أشكال المساعدات الإغاثية والإنسانية؛ نصرةً لإخواننا المظلومين المحاصرين في قطاع غزة، وإنقاذًا لهم. مع إدراكِنا أن امتلاكَ الشعوب -وفي القلب منهم الشعبُ المصري- لحريتها وإرادتها إنما هو البداية الحقيقية لسقوط هذا الكيان وهزيمته، وهو ما أدركه الاحتلال عندما قدم كافةَ أشكالِ الدعم للانقلاب على إرادة الشعب المصري عندما سمع صوتَ الرئيسِ الشرعي الدكتور محمد مرسي -رحمه الله- يرددها عاليةً مدوية: "لن نترك غزةَ وحدها” "احذروا غضبَ الشعبِ المصري" "غَضْبةُ شعبٍ وقيادة”.
إن قضية فلسطين تستقي مصادرَ عزتها ونقاطَ قوتها من عدالتها وحق شعبها المشروع في الحرية والاستقلال، وهي حقوقٌ لن يَزْوِيَها النسيانُ ولن يطْمُرَها البهتانُ، حتى تؤتي أُكُلَها وتحقق مرادَها وتصلَ إلى غايتها؛ لتثمر تحريرًا للأرض وعزةً في النفس: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون} [يوسف: 21].
مصر والحرية المفقودة
وعلى الصعيد المصري نتابعُ محاولاتِ الانقلابِ اكتسابَ شرعية مفقودة؛ من خلال احتفالاتٍ ومهرجاناتٍ صاخبة بما يسمى بالولاية الجديدة، التي تأتي استمرارًا لاغتصاب السلطة بعيدًا عن إرادة الشعب الحقيقية، ومن خلال انتخابات هزلية ضحك منها العالم وأساءت لسمعة مصر، في وقت يشهدُ فيه العالم انتخاباتٍ حرةً نزيهةً في السنغال حيث يصعدُ إلى السلطة شابٌّ اختاره الشعبُ وأخرجه من السجن، وفي تركيا حيث كان مثالًا رائعًا للشفافية والنزاهة عندما أدارت الحكومةُ انتخاباتِ البلديات التي فازت فيها المعارضةُ ثم يخرج الرئيسُ التركيُّ بعدها ليعلن استجابتَه لإرادة الشعب.
إن محاولاتِ الانقلابِ اليائسة لن تغيِّرَ من الحقائق على الأرض التي يعرفُها الجميعُ ويدركُها الشعب، في ظل إهدار مُمْنهج للمال العام وبيعٍ لمقدرات البلاد، ورهنِ أصولِها لجهات أجنبية مشبوهة، وزيادةٍ لوتيرة الاقتراض، وإغراقٍ للأجيال القادمة في ديون تكبِّل الإرادة الحرة للشعب، بعدما حصلت خلال الأسابيع القليلة الماضية على تعهداتٍ ماليةٍ من جهاتٍ دولية عدة لقروضٍ بقيمة 57 مليار دولار- وفقا لوكالة بولمبيرغ الأمريكية- كان آخرها إعلان البنك الدولي اعتزامه تقديم أكثر من 6 مليارات دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة؛ بما يُسهِم في مزيدٍ من تكبيل الأجيال القادمة بالديون التي لا يتم استثمارُها في أوعية إنتاجية، ولكن يتم إهدارها في مشروعات وهمية تتزايد في ظلها معاناةُ الشعب، الذي يعاني من ارتفاع الأسعار وتراجع الخدمات بشكل غير مسبوق، مع غيابٍ كامل للشفافية حول مصارف القروض، بما يؤكد أنها كسابقتها لن تُفضيَ إلى مصلحة المواطن ولن تؤديَ إلى تحسينٍ في ظروفه الاقتصادية.
وليس أدلَّ على تخبُّطِ النظامِ الاستبدادي وتخريبِه للاقتصاد والحياة السياسية والاجتماعية من الجُرأة في الشراء بالديون والفوائد الباهظة؛ خدمةً لمصالح الدول التي توفر له الغطاءَ السياسي، وبيعِها لنفس الدول، وعلى سبيل المثال فقد اشترى النظامُ صفقةَ طيرانٍ مدني باهظة التكاليف بقروض عالية الفائدة، ولم تمض عليها شهور حتى بدأ في بيعها مرة أخرى بالبخس لتسديد فوائد قروض شرائها في صفقات مشبوهة؛ فسادٌ عند الشراء وفسادٌ عند البيع، في ظل غياب رقابة شعبية حقيقية، فلا علاقة لمجلس شعب النظام المزوَّر الكسيح بأي نوع من الرقابة؛ وها هي الدولُ الداعمةُ للانقلاب والراعيةُ للاحتلال تقوم بفصل مصر نهائيًّا عن عُمقها العربي في المشرق باقتراح إنشاء موانئ بديلةٍ وبعيدةٍ عن حدود مصر وفلسطين، وكذلك تدميرُ ليبيا والسودان تحت سمع وبصر الانقلابيين؛ لتصبح مصر مُحزَّمَةً بأحزمةٍ نارية، مثلُها مثل بيوت غزة؛ ليسهل سحقُها وتفكيكُها لإقامة الدولة الصهيونية الكبرى.
إن استمرار الظلم مؤذنٌ بخراب العمران، ولن يُصلح الاقتصادَ إلا سياسةٌ رشيدةٌ تفتح المجالَ أمام الحرياتِ العامة، وتكسر قيودَ القهر، أما سياساتُ البطش والتنكيل لكل مكوِّنات الشعب، وفي المقدمة منهم القوى السياسية والشعبية التي ترفض الظلم وتأبى الهوان؛ فلن تثمر خيرًا لمصر، ولن تفلح في إخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية، مع التمادي في نشر روح اليأس والإحباط في نفوس المصريين من خلال اعتقالات مستمرة وأحكام جائرة ومحاكمات ظالمة، كان آخرها ما صدر ضد فضيلةِ المرشدِ العام لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ الدكتور محمد بديع وإخوانه.
إن جماعة "الإخوان المسلمون" -وانطلاقًا من تعاليم الإسلام الحنيف- ستظلُّ متمسكةً بمبادئِها وثوابتِها الداعيةِ إلى مجابهة الظالمين ومحاربة الفاسدين، بكل الطرق السلمية، باعتبارها الطريقُ الوحيد لتحقيق العدالةِ ودعمِ روح الانتماء وحب الوطن، بما يدفع إلى انطلاقةٍ حقيقيةٍ نحو النهضة. وإعادةِ بناءِ ما هدمه المفسدون: {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [اﻹسراء: 51].
من أخبار الجماعة
في إطار سلسلةٍ من الفعاليات السياسية عقد منتدى النهضة للدراسات الإنسانية والإستراتيجية ندوة تحت عنوان "وثيقة يناير 2024 .. دلالات وتوقعات" والتي أصدرتها جماعة "الإخوان المسلمون"، وقد شارك في هذه الندوة لفيف من قادة الفكر والسياسة والذين أثْرَوا النقاشَ حول الوثيقة بالعديد من اﻵراء المتميزة ووجهات النظر النافعة.
وفي ختام الندوة توجه المنتدى بالشكر لجميع المشاركين، مع التأكيد على النقاط التالية:
-
أن الوثيقةَ أبرزتْ معالمُ الرُّؤيةِ السياسيةِ لجماعةِ "الإخوانُ المسلمون".
-
أن المشروعَ السياسيَّ لـ "الإخوانُ المسلمون" هو مشروعٌ وطنيٌّ حضاريٌّ جامعٌ، يهدفُ إلى تحقيقِ سلامةِ الوطنِ وتماسُكِ المجتمعِ بكلِّ مكوناتِهِ.
-
أن الوثيقةَ تهدفُ إلى تحديد منطلقاتِ وأولوياتِ العمل السياسي لدي الجماعة، والتي يأتي على رأسِها بناءُ التوافقِ الوطني مع القُوى والتياراتِ والرموزِ الوطنيةِ كافةً؛ منْ أجلِ تقديمِ رؤيةٍ مشتركةٍ للتعاملِ معَ المشهدِ الحالي.
-
أن الوثيقةَ تميزتْ بطرحِ رؤية الجماعةِ للوصول إلى التغيير السياسي في مصر، وكذا رؤيتها لليوم التالي بعد إحداث التغيير المنشود.
والله أكبر ولله الحمد
أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "
الثلاثاء 30 رمضان 1445 هجرية الموافق 9 أبريل 2024م