حلَّ علينا رمضان ضيفًا عزيزًا لمدة شهر، واجتهدنا ما وسعنا الجهد في استقباله وحسن ضيافته؛ فصمنا نهاره إيمانًا واحتسابًا، رجاء الأجر والمغفرة عند الله عز وجل، وكان الصوم سرًا بيننا وبين ربنا؛ فقويت إرادتنا وصحّ عزمنا لتحصيل التقوى من الله عز وجل، وقمنا ليله خاصة العشر الأواخر مجتهدين متملقين لربنا سبحانه إيمانًا واحتسابًا رجاء الفوز بليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، وتهجدنا لله تعالى عسى أن يبعثنا الله مع نبينا صاحب المقام المحمود، وأن يحشرنا في زمرته، وأن يوردنا حوضه الشريف، وأن يطفئ ظمأنا يوم العطش الأكبر، ويظلنا في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
وقد أخرجنا زكاة فطرنا، واجتهدنا في إخراج زكاة مالنا وصدقاتنا للفقراء والمساكين، وتوجهنا إلى الله تعالى بدعوات خالصة متضرعة خاشعة أن يرحم أمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويخرجها من ظلمات الجهل والجهالة إلى نور العلم والمعرفة، ومن التردد والشك إلى الرضا واليقين، ومن الضعف والذل إلى القوة والمنعة والعزة التي كتبها الله لنفسه ولرسوله وللمؤمنين، وأن يفك أسر كافة إخواننا المحبوسين والمأسورين في مصر وأفغانستان والعراق وفلسطين وفي جوانتانامو وغيرها من سجون الظالمين والفاسقين والمشركين.
وها نحن نستقبل أيام العيد المباركة؛ عيد الفطر في أيام الجوائز الربانية والعطايا الإلهية؛ حيث يفرح الصائمون بفطرهم، ويفرحون بقبول الله تعالى لصومهم وقيامهم، ويظهرون هذه الفرحة الإسلامية في خروجهم إلى المصلى في الخلاء؛ يكبِّرون الله تعالى ويحمدونه ويوحدونه في مظهر يندر أن تجد مثله في أمة من الأمم أو ملة من الملل أو دين من الأديان، ففرحة العيد عند المسلم هي فرحته بطاعته لربه، يظهرها بمزيد من الطاعة والإقبال على مولاه، فيكبِّره ويصلي له ويهنئ إخوانه المسلمين بقدوم العيد، فمع كل هلال يطلع علينا تكون طاعتنا لله هي سبيلنا إلى رضاه، ونتذكر أننا جزء من هذا الكون الفسيح الذي يسبِّح كل لحظة لمولاه وصدق الله العظيم: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (يونس:58).
وينتقل المسلم من طاعة إلى طاعة يعلن عبوديته لله عز وجل، فهل تزودنا من رمضان لبقية العام؟
إن حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم يُعلمنا أن رمضان إلى رمضان مكفِّرات لما بينهما من الذنوب ما اجتنبا الكبائر.
ولا يعني ذلك أن المسلم يودِّع الطاعات بمجرد ظهور هلال العيد، ولعل شرعة الله التي جعلت إظهار فرحة العيد بالصلاة والتكبير تُعلّم المسلم أن زاد رمضان يبقى معه إلى رمضان القادم إن مدَّ الله له في عمره وأنسأ له في أجله.
فهو يتزود من رمضان بإرادة قوية وعزيمة فتية لمزيد من الطاعات والبعد عن الحرام والمهلكات، فإذا كان ترك الحلال ابتغاء وجه الله فكيف يقرب الحرام بعد لك!!
وهو يعلم أن الصوم الذى خرج من مدرسته بعد شهر طويل يستمر معه بعد رمضان في صيام النوافل، ويبدأها فوزًا بستة أيام من شوال بعد يوم العيد، ويداوم عليها في ثلاثة أيام كل شهر في الأيام البيض، ويومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، وأيام عرفة، والعشر الأول من ذي الحجة، ويوم عاشوراء فلا ينقطع عن تلك العبادة العظيمة.
وهو لا ينقطع عن قيام الليل بعد أن ذاق حلاوة الوقوف منفردًا بين يدي الله، متهجدًا متبتلاً متوجهًا إلى مولاه يناجيه ويدعوه وقد حفظ قدرًا من القرآن يعينه على تذوق حلاوة القيام؛ حيث لا يكون همه آخر السورة بل يتدبر ويعود إلى التفاسير ليفهم مراد الله، وينتقل بينها ليعلم أن أسرار القرآن لا تقف عند حد، وما نقله المفسرون أو العلماء بل إن هذا القرآن يعطي عطاءه لكل من أقبل عليه بقلب سليم وعقل سديد وفطرة خالصة لا تشوبها شائبة.
وهو عندما يحرص على إخراج زكاة فطره قبل صلاة العيد فإنه يعلن مداومته على الإحسان إلى الفقراء، وتزوده من رمضان لبقية الأيام؛ حيث شعر بألم الجوع فيحرص على أن يتصدق كل يوم أو أسبوع، أو حتى كل شهر على فقير أو مسكين، وحبذا لو كان حجز جزءًا من زكاة ماله ليعطي رواتب شهرية لأقاربه من الفقراء أو جيرانه المساكين، أو ينفق على طالب علم فقير، أو يتعهد أرملة ويتامى ومساكين، فليس معنى إخراج زكاة المال في رمضان أن ينفقها كلها مرة واحدة خلال الشهر الفضيل؛ بل يمكنه بعد فصلها تمامًا عن ماله أن يخرجها للفقراء والمساكين على مدار العام، وإذا صعب عليه ذلك فليسلمها إلى من يثق به ليدبر أمرها طوال العام.
وهل تنقطع صلة الأرحام وزيارات الأصدقاء بانقضاء رمضان؟! أشكّ في ذلك، صحيح أن أجواء رمضان وانتظام الوقت فيه تساعد على اجتماع الأحباب على مائدة الإفطار العامرة، ولكن إذا صحت النية وقويت العزيمة فلا أقل من الاتفاق على موعد كل شهر للقاء الأرحام على أبسط الطعام دون إرهاق ولا إقتار.
ومع استقبال العيد تهفو قلوبنا إلى إخوة أحباب غيبتهم الأسوار، وتنغص فرحتهم بالعيد قيود الظالمين وإعادة الاعتقال ووطأة الأمراض، إلا أن فرحة الطاعة لا تحجزها أسوار ولا تمنعها السجون؛ فالأرواح معلقة بربها، وهي ترجو رحمته وتطلب رضاه، وإن لم يكن به تعالى غضبٌ عليها فلا تبالي وتطلب عافيته وعفوه.
وجدير بأمة المسلمين مع فرحة العيد أن تطلب الفرحة الحقيقية بتحرير إرادة الأمة من الارتهان لأعدائها، وتحرير أراضي الأمة الإسلامية من ربقة الاحتلال في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال؛ بتبييض سجون الأمة من سجناء الرأي والمعارضين كافة؛ بالقضاء على الاستبداد والفساد والجهل والتخلف الذين كبَّلوا إرادة الأمة فلم تنطلق لتحقيق نهضتها والوصول إلى مكانتها التي تستحقها بين الأمم، إذا فرح الأطفال بالعيد باللعب واللهو؛ فإن فرحة الكبار هي تحقيق الآمال العريضة في مستقبل أفضل يليق بأمة لا إله إلا الله.
فرحتنا لا تكتمل إلا برفع الحصار عن إخواننا في غزة، وإعادة اللُّحْمَة الوطنية للشعب الفلسطيني؛ ليقف صفًا واحدًا ضد المحتل الصهيوني؛ فلا ينحاز فريق منه إلى المحتل البغيض، وبطرد الجيوش الأمريكية والأجنبية من العراق وأفغانستان والصومال.
تقبل الله منا ومنكم أيها القراء الأحباب، كل عام وأنتم بخير، وأعاد الله العيد علينا بفرحة أتمّ، ونصر عزيز أدوم، وقلوب إلى الله أقرب، وحرية أكبر من الشهوات والمعاصي.