سير المجاهدين أطياف تحلق في الآفاق.. يراها الناس أشبه بالرؤى والمنامات ، وهي في الحقيقة تحلق في الآفاق... باعتبار أنهم سموا عن حب الدنيا بما فيها ومن فيها ، وباعتبار أنهم بانتقالهم إلى الملأ الأعلى يكونون في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة تحت العرش ...

ومن هنا كان الإلمام بهذه السيرة العطرة أمرا صعب المنال؛ فالعقل قد لا يكفي وحده للإحاطة بالوقائع والأحداث، ولئن أحاط فإنه لا يكفي لتصورها ولئن كفي لتصورها فإنه لا يكفي لتبريرها... لماذا ... كيف .... الخ .

ولقد أكرمني الله بمعايشة بعضهم ممن أعادوا سير السلف الصالح ... كنت أحس أنى أعيش مع أطياف من الجنة تسعى على الأرض... أو ملائكة من السماء رضيت أن تشاركنا الحياة... أستغفر الله أحسب أن بعضهم أكرم على الله من الملائكة، وكيف لا وقد كرم رب العلمين جدهم آدم ... حين أمر الملائكة أن تسجد له وقد خلقه من طين وخلقهم من نور .

وأبى إبليس أن يسجد... وطمس المنطق العقلي السقيم روحه... فقال { أأسجد لمن خلقت طينا } وقال { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } فكانت معصية إباء وغطرسة، وتطاولاً على مقام رب العالمين { إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } .

قال لي أحدهم ... أخي ... عندما صدر حكم الإعدام علىّ من قبل الظلمة الفجرة لقد كنت أقرأ القرآن ، وأنا أنتظر تنفيذ حكم الإعدام ... فكنت أرى من خلال سطوره وبين كلماته صور الجنة ماثلة أمام عيني ... تزيد شوقي للجنة .

وروى آخر ... أنه سمع أحدهم يقول لأخيه في المعركة وهو جريح ( دعني دعني يا أحمد فإني أشم رائحة الجنة، وفاضت روحه )

وامتد بي الخيال إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ...

سيدي وحبيبي يا رسول الله ...

يا أول معلم علم الأمة الجهاد وحبيبه إلى نفسها ... لهفي عليك وأنت تجاهد الكفار في مكة وتحتمل أذاهم، وتنفذ أمر ربك إليك { وجاهدهم به جهاداً كبيراً }، ثم لهفي عليك ... وأنت تقف موقف الصلابة من مساومة الكفار لك... مباشرة وعن طريق عمك ... حتى لتقول قولتك التي خلدها التاريخ : ( يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري ... ).

ثم لهفي عليك... وأنت العزيز على ربك، وأنت العزيز بين أهلك وقومك، يتسلط عليك السفهاء، ويطاردك الصبية بالحجارة حتى تدمى قدماك، وقبلها يا حبيبي يا رسول الله دمي قلبك... لإعراض قومك حتى قال لك رب العالمين { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً }، ( قاتل نفسك من شدة الأسف والأسى ) وعلمك وعلمنا من بعدك { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } .

ويأتيك ملك الجبال فيقول لك: إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين... لكنك تجاهد نفسك وتحتمل الصبر مراً في سبيل الله، وتتسامى على كل الدوافع البشرية والشخصية ... وتدعو لهم: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) وتقول: ( لعله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ) عليك الصلاة و السلام يا سيدي يا رسول الله ... تدعو لمن آذاك ... بدلاً من أن تدعو عليهم ؟ سبحانك ربى لا يقدر عليها إلا رسول ...

وتنتقل بعد جهاد الدعوة وجهاد الصبر... إلى جهاد السيف ...وتمتشق الحسام أشجع الناس وأقوى الناس وأسرع الناس ... ويسجل لك صاحبك ... (كنا إذا حمى الوطيس احتمينا برسول الله عليه الصلاة والسلام) .

ويجل لك التاريخ موقفك يوم أحد ... حين تفرق المسلمون ساعة الهزيمة إذ عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وتواثب الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنتاشه سهامهم وحرابهم وسيوفهم، وكسرت رباعيته، وشج وجهه، وهو ثابت يقول: ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) .

ويصل حبك في القلوب أن تصل إلى امرأة نعى أبوها وأخوها وزوجها ... فتسأل: كيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون لها بخير ... فتقول: كل خطب دون رسول اله صلى الله عليه وسلم هين ... .

وموقفك يوم الأحزاب: { إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً }.

ومع ذلك يبلغ ظنك بربك أن تضرب الحجر وأنت تشارك صحابتك حفر الخندق ... فتقول: الله أكبر ... فتحت علينا كنوز كسري وقيصر... وقبلها تقول لسراقة وهو يطاردك بين مكة و المدينة وأنت أعزل من كل شئ :( أسلم يا سراقة وغداً تلبس سوارى كسري ) ويهنأ بها سراقة الذي يعيش عهد محمد صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبى بكر الصديق، وعهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه ... ويفتح الله على المسلمين أرض الفرس فيطالب سراقة عمر بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فينفذه عمر .

وغيرها كثير ... كثير ...

أما الصديق رضي الله عنه ... فجهاده في مكة معك يا رسول الله - وهو أول من صدقك - حتى يبلغ بالكفار أن يضربوه حتى يفقد الوعي و النطق، ومع ذلك فهو حين يفيق يسأل أول ما سأل عنك .... عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ويرد جوار الكفار لأنه أبى عليه أن يرفع صوته في الصلاة حتى لا يتأثر الكفار من سماعهم القرآن ... وقد كان رضي الله عنه بكاء إذا تلا القرآن .

ثم يموّل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ رحلة الهجرة المباركة ... يعد الناقتين، ويعد الطعام، ويعد الدليل ، ويعد من يزيل الأثر؛ حتى لا يتعرف الكفار على الطريق، ويعد ابنته أسماء ( ذات النطاقين ) لتحمل الزاد بين الحين و الحين ...

ويعيش معك صاحبك يا رسول الله... مقاسماً لك الجهاد طول حياتك ، حتى إذا انتقلت إلى الرفيق الأعلى، وحمل من بعدك الأمانة، وهي ثقيلة، وبدأت الفتنة تطل برأسها، وارتد من ارتد، ومنع الزكاة من منع، وبدا للبعض أن أبا بكر الحليم الرحيم لن يرفع السيف، بل إن عمر وهو من هو يجادل أبا بكر: كيف تقاتل من قال لا إله إلا الله ... وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله ) فيقول أبا بكر ... إلا بحقه ... و الزكاة من حقه ... ويرقى فقهه الدقيق فيقول: ( لا أفرق بين الصلاة والزكاة ) ... وكيف يفرق والله جمع بينهما: { فإذا انسلخ الشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم }

ثم كانت عزمه وتصميمه وقوته وهو الحليم الرحيم: (والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه ... ومن هنا سرى القول ... ردة ولا أبا بكر لها .

وكان هذا بعض جهاد أبى بكر .... رضى الله عنه

أما عمر - رضى الله عنه - فملحمة جهاد ... منذ دخل نور الإسلام قلبه ...

يخرج على رأس صف من المسلمين، وسيد الشهداء حمزة على رأس الصف الآخر، يتحدى الكفر والكافرين في مكة وفي الكعبة، وهو يردد وهم من خلفه يرددون الله أكبر .... الله أكبر ...

ويجاهد مع الرسول في غزواته، ويقف بجوار أبى بكر وزيره الأول ....

ثم يأتي عهده ... فإذا به ملئ بالجهاد ... جهاد السيف ... وإذا برب العالمين يفتح به وفي عهده ... على المسلمين ما لم يفتح من قبل ... وتزول دولة الفرس كما زالت دولة الروم ... وهما أشبه اليوم بالقوتين الكبيرتين أمريكا وروسيا .

جهاد .... وأي جهاد .

ومن بعده علي ابن أبى طالب رضى الله عنه

ما عرف الشرك ...

عرف الإسلام وهو بعد صبيّ ، فتربى في بيت النبوة، وتخرج من مدرستها،  وكان أشجع الشجعان ...

حين طلب الكفار من ينازلهم يوم بدر ... دفع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أول غزوة - بأشجع الناس وعلى رأسهم على ابن أبى طالب رضي الله عنه، ثم كانت مشاركته في الغزوات بعد ذلك .

وكانت بيعته لأبى بكر ..... ثم لعمر، ثم لعثمان ...

 

ولم يزعم علىّ لنفسه حقاً على أبى بكر، ولا على عمر، ولا على عثمان ...

لكن الذين خلفوا من بعده زعموا له ما لم يزعمه لنفسه... ومن ثم بالغوا في حبه حتى انتقلوا إلى النقيض، وكان من النقيض أن يزعموا أفضليته على الصاحبين أبى بكر وعمر أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ، حتى قال بعض غلاتهم إن الوحي ضل في طريقه إلى على فنزل على محمد... وما ظنوا بذلك أنهم يطعنون في أسماء الله وصفاته، وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، فأين كان رب العالمين حين ضل الوحي أيها الضالون ؟

وبلغ الكفر ببعضهم أن زعموه إلهاً ، وزعموا أن الرعد صوته، والبرق سوطه، وأقاموا الصلوات وتوجهوا له بالدعوات ... { تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً } .

وفي عهد... حرق علىّ أمثال هؤلاء ... وبلغ الضلال بهم أن قالوا له وهو يحرقهم نشهد أنك أنت أنت الله فلا يحرق بالنار إلا إله ... سبحانك هذا إفك عظيم ... جاهد علىّ هؤلاء كما جاهد من قبلهم الكفار و المنافقين وجاهد من خرجوا عليه ... وعاش حياته جهاد كلها ... حتى طعنه ابن أبى ملجم قاتله الله .

ومن بعد جيل الصحابة جيل من التابعين ... جاهدوا كما جاهد أسلافهم ومازالت الأمة تلد جيلاً بعد جيل من المجاهدين ... حياتهم نماذج لإسلام حي يسعى على الأرض ، حتى كان عصرنا هذا ... عصر التخلف والاستعمار والاستعباد ... العصر الذي تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم :(توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ) والذي تنبأ به كذلك في :( دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها ) ... فظهر في هذا الجيل النكير مجاهدون ....

حسن البنا في مصر

ومصطفي السباعي في سوريا

عز الدين القسام في فلسطين

أحمد عرفان الشهيد في الهند

أبو الأعلى المودودي في باكستان

عبد القادر عودة ، وسيد قطب ، وحسن الهضيبي في مصر

مروان حديد ، عبد الستار الزعيم ، أحمد الفيصل ، وسالم الحامد في سوريا .

محمد عواد ، يحيى هاشم ، كارم الأناضولي في مصر .

ولا تزال الدعوة تفرز أجيالاً من المجاهدين ...

صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً }

ولا نستطيع أن نحيط بكل هؤلاء ... لكننا سوف نأخذ نموذجاً من مجاهدين لم تجف دماؤهم مع سيلان هذا المداد ... والله المستعان .

1- عبد الستار الزعيم .....

أحد الذين تولوا قيادة تنظيمية بعد لقاء مروان لربه ، لينفذ وصية مروان - رحمه الله - بمعاملة الخصوم كما أمرهم الله وأي خصوم أعتى من هؤلاء الكفرة الذين ألهوا عليا دون رب السموات والأرض ؟

حمل عبد الستار المسئولية وخطط ونظم ونفذ ... فكان من أدق من فعل ذلك، ولم يستطع العدو الغاشم - فيما نقل لي - أن يكشف شيئاً من عمليات عبد الستار الزعيم ولا أن يقع في يد أحد من جنوده .

كسر حاجز الخوف،  وحطم وهم الرهبة، وأذل هيبة السلطة .... وجعلها تجثو على ركبتيها ....لا

تعرف من أين تتلقى الضربات ولا كيف ترد الضربات .

ولقي الله في الميدان وهو ابن الثلاثين ... ليخلف بعده رجالاً يحملون المسئولية .

2- أحمد الفيصل ...

درس على علماء حلب ، ونهل من مصادر العلم والمعرفة، وعكف على الظلال يدرسه مع إخوانه ... وتفرغ بعد الثانوية ليثقف نفسه مع اكتفائه بالكسب من عمل يده كنجار وأحب الصغار وأحبه الصغار ودرس في المدارس وفي المساجد وطاف القرى والأماكن واتصل بالمجاهدين، وفي يوم راح يزور بعضهم، فكان في انتظاره زبانية النظام الكافر ... حملوه إلى الأقبية ... أوسعوه ضرباً وتعذيباً حتى تلف، ولأنه من أسرة ينتمي إليها أحد قادة النظام، حملوه إلى المستشفي ليجروا له عملية ، واستدعى الأب ليرى ابنه ... فرآه يلفظ أنفاسه الأخيرة وتمتم الابن المطيع قتلوني يا أبى .... قتلوني قتلهم الله .

3- سالم الحامد ...

نجل عالم سوريا الجليل محمد الحامد ... دون الثلاثين ... تربى في حماه ... وفي مدرسة الجهاد وانضم إلى صفوف المجاهدين، وفي معركة دامت ساعات بين مئات تحمل الآليات و الصواريخ وتركب الدبابات و السيارات المصفحة ... وبينه وحده .

على الطرف الآخر سقط عشرات ... وطلبت نجدات، وهم يظنون أن داخل هذا المكان عددا كبيرا من المجاهدين وسالم - أكرمه الله - يتنقل بين النوافذ ليصليهم مرة قنابل وأخرى رصاصاً وثالثة قذائف ...

وفي الأخير نفذ ما كان معه وتوقف الرصاص والقذف من جانبه ، فاقتحمت القوة الغشوم المكان، وكان ينتظرهم على السلم ومعه قنبلته الأخيرة فألقاها ونفسه عليهم وقتل منهم من قتل وجرح من جرح ليكون على طرف عشرات القتلى و الجرحى ، وعلى طرف آخر بطل واحد نفذ قول رب العالمين { فيقتلون ويقتلون } ليذهل الجميع من هذه المعركة ومن نتائجها ... رحمك الله يا سالم ورحم والدك المجاهد ... الذي خرَّج أبطالاً مثلك ... من أبنائه في الصلب ...وأبنائه وإخوانه في العقيدة ... رحمكم الله دوحة مباركة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، ويغيظ الله بهم الكفار، ويشفي بها صدور قوم مؤمنين ...

وكنا نود أن نسرد الكثير ...لولا أنه لم يتيسر لنا من المعلومات إلا القليل ، فضلاً عن أنه لم تقم إلى هذا الأمر طائفة لتسجل هذه الصفحات المضيئة من تاريخ مجاهدي القرن الخامس عشر الهجري ... بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف وأربعمائة عام ....

سيدي يا رسول الله ...

لا يزال أحبابك على الطريق ... يحملون الراية ويجاهدون في سبيلها ، حتى تعود مرة أخرى الدولة التي جاهدت فأقمتها بالمدينة كريمة عزيزة رحيمة .

حبيبي يا رسول الله ...

وفداء دعوتك ... الدم و الروح ... وفداها الأبناء والآباء والإخوان، وفداها الدنيا ما نملك منها وما لا نملك ... حتى يحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون، ويتم نوره ولو كره الكافرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

من كتاب المبادئ الخمسة –للمستشار الدكتور علي جريشة رحمه الله.