منى عبد الفتاح

تشكل عملية التربية منعطفاً مهماً وخطيراً في حياة أبنائنا، خاصة في ظل تعاظم التحديات، وتعدد معاول الهدم، وتفشي التلوث الأخلاقي، وانتشار المحاضن غير التربوية، أو بمعنى أدق المحاضن الملوثة، التي تضع السم في العسل.

وتعد محاضن التربية من كتاتيب ومدارس وجامعات ومكتبات ومساجد ومراكز توعية وغيرها مكوناً رئيساً في عملية التربية، لكنه لا يستأثر بجوانب التأثير في العملية برمتها، مع دخول وسائل الإعلام، والقنوات الفضائية، ومواقع التواصل، وتطبيقات الدردشة، و«جروبات الواتساب»، إلى الحقل ذاته.

ومن مجتمع إلى آخر، تتعدد المحاضن التربوية، وتتنوع أساليبها ومناهجها، وتختلف أهدافها وغاياتها، وبالتالي تنعكس مخرجاتها إما إيجاباً أو سلباً على خريجيها من الأجيال الجديدة.

ونظراً لغياب الرقابة، وضعف المحتوى، ودخول غير المختصين إلى الحقل التربوي، وربما فساد النوايا والضمائر، تكون النتائج كارثية، والخسائر فادحة تربوياً وأخلاقياً ومجتمعياً.

قد ينتابك الانزعاج والقلق، حينما تقوم دور الحضانة بتعليم الصغار فنون الرقص والغناء من باب الترفيه وإدخال البهجة عليهم، مع السماح بتسلل ما يعرف بـ«أغاني المهرجانات» إلى آذان وقلوب النشء، وتراجع كفاءة المعلمين والعاملين في الحضانة؛ ما يعني أن المنتج التربوي لن يكون على المستوى المأمول.

وفي المدارس الإعدادية والثانوية، يجري عن عمد، في دول عربية وإسلامية عدة، الاختلاط بين الجنسين في الفصول التعليمية، رغم ما ينطوي ذلك على أخطار، دون اعتبار لحساسية مرحلة المراهقة، وما يطرأ على الذكر والأنثى من تغيرات فسيولوجية ونفسية حادة، قد تنجرف بهما إلى منزلق أخلاقي وشهواني خطير، الأمر الذي يلوث هذا المحضن، ويحيد بدوره عن بوصلته التربوية والأخلاقية السامية.

ولعل مشاهد الرقص خلال حفلات التخرج في الجامعات، في أحد البلدان العربية، مثالاً على تفشي التلوث الأخلاقي داخل المحضن التربوي، وسط صمت من القائمين على منظومة العلم والتربية، بل والاحتفاء إعلامياً بطالب أو طالبة، ممن يؤدين وصلة رقص على أغنية تافهة، بدعوى التعبير عن السعادة والفرح بإنهاء مسيرته التعليمية.

ومن الجامعات إلى المراكز والنوادي الرياضية، التي تنمي نزعة الاختلاط بين الجنسين، من منطلق الرياضة للجميع، فتزول الحواجز، ويتوارى الحياء، فترى مثلاً رجلاً يدرب امرأة، أو امرأة تدرب رجلاً، وهي صور نمطية تحرص المنظومة الغربية على تمريرها للعقل الجمعي للعرب والمسلمين، وهو ما ظهر بقوة خلال «أولمبياد باريس 2024»، وغيرها من البطولات العالمية، التي باتت محضناً لسلوكيات شائنة، وأفعال غير أخلاقية.

بل إن الأمر جد خطير، مع اقتحام منصات ومنابر جديدة منظومة التربية، وهي محاضن تدار من قبل شركات عالمية لا تلتزم بقيمة أو خلق، ما يجعل من «تيك توك»، على سبيل المثال، محضناً مقززاً لكل ما هو سفيه، ومنبراً للإغراء والرذيلة والإباحية، وقد تعاظم تأثيره ليفوق المدرسة والجامعة والمسجد وغير ذلك من محاضن التربية والبناء والوعي.

وتزداد الخطورة مع امتداد التلوث الأخلاقي والمادي، إلى الأركان الرئيسة التي يقوم عليها المحضن التربوي، وهي: المُربي، والمتربَى، والبرامج، والإدارة، حيث بات الربح شعار المحضن التربوي، مع تواري البعد الرسالي جانباً، وتفريغ العملية التربوية من مضمونها، وبالتالي فقدان البوصلة التعليمية والأخلاقية.

هذا الواقع المؤسف لا يدعونا إلى اليأس أو الإحباط، بل يجب أن يحفز الهمم، ويشد من العزائم، نحو تصويب المسار، وإعادة القدسية للمحضن التربوي، وتعزيز رسالته السامية، وتبيان هويته، حتى يعرف المربي دوره الحقيقي، وتتوافق المخرجات مع ما نصبو إليه من تخريج جيل النصر المنشود.

إن من الأهمية تجويد المنتج التربوي، وضبط السلوك التعليمي، والارتقاء بالواقع التربوي، وتحديد المسار، والأهداف، والغايات، والسير وفق معايير تحقق الجودة المطلوبة، بالأدوات المناسبة، ضمن برامج زمنية محددة، تضع بلداننا ضمن مصاف الدول المتقدمة في مجال التربية والتعليم.

وليكن هم المشتغلين بالتربية تنويع المحاضن، وإثراء برامجها، وابتكار محاضن جديدة، تستوعب المراهقين من الجنسين، وتلبي تطلعاتهم نحو المستقبل، على أن تضع أولويات تربوية لها، وأن تسد الثغرات التي نؤتى منها، وأن تنتهج التخصص العلمي، فهذا محضن ديني، وهذا فكري، وهذا عقائدي، وذلك محضن للفئة العمرية من عمر كذا، وآخر لشريحة كذا، وهكذا، فعملية التربية مستمرة ومتواصلة، ولا تتوقف عند سن ما، أو عند شريحة عمرية بعينها.

بل إن الآباء والأمهات في حاجة إلى محاضن تربوية، وكذلك المعلمين، وأصحاب التخصصات والحرف المختلفة، كل في مجاله، هو في أمسّ الحاجة إلى محضن تربوي، يحصن ذاته ضد دعاوى الانحلال والميوعة والشذوذ والإلحاد، وينهض بدينه وخلقه وفكره، لنصنع أجيالاً واعية من المربين، ونجعل من كل راع ورب أسرة، في حد ذاته، محضناً تربوياً مستنيراً.

الأمر يتطلب يقظة ضمير، ولحظة تجرد، ونية صالحة، لتقييم مسار ومحتوى محاضننا التربوية، أياً كان مسماها، ومراجعة برامجها، وتقييم مخرجاتها، والوقوف على إيجابياتها وسلبياتها، وتطوير مناهجها وأدواتها، والنهوض بالقائمين عليها، والاستفادة من التجارب التربوية المنافسة، من أجل الوصول إلى محاضن بناء نقية الفكرة والغاية، صالحة البرامج والأدوات، تنقذ أسرنا وشعوبنا ومجتمعاتنا من سرطان التلوث الأخلاقي والتربوي والتعليمي، فهل من مستجيب؟!

المصدر: المجتمع