كان ربيعة بن كعب الأسلميّ يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما صنع أحد له معروفاً إلا أحب أن يجازيه عليه بما هو أجزل منه.

يقول ربيعة: وقد أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجازيني على خدمتي له، فأقبل عليَّ ذات يوم وقال: «يا ربيعة بن كعب»، فقلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، فقال: «سلني شيئاً أعطه لك»، فروّيت قليلاً، ثم قلت: أمهلني يا رسول الله لأنظر فيما أطلبه منك ثم أُعْلمك، فقال: «لا بأس عليك»، وكنت يومئذ شاباً فقيراً، لا أهل ولا مال ولا سكن، وكنت إنما آوي إلى صُفّة المسجد مع أمثالي من فقراء المسلمين.

وحدثتني نفسي أن أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من خير الدنيا، أغتني به من فقر، وأغدو كالآخرين ذا مال وزوج وولد، لكني ما لبثت أن قلت: تبّاً لك يا ربيعة بن كعب! إن الدنيا زائلة فانية، وإن لك فيها رزقك الذي كفله الله عز وجل لك، فلا بد أن يأتيك، والرسول صلى الله عليه وسلم في منزلة عند ربه، لا يرد له معها طلب، فاطلب منه أن يسأل الله لك من فضل الآخرة، فطابت نفسي لذلك واستراحت له.

ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما تقول يا ربيعة؟»، فقلت: يا رسول الله، أسألك أن تدعو لي الله تعالى أن يجعلني رفيقاً لك في الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: «من أوصاك بذلك؟»، فقلت له: والله ما أوصاني به أحد، ولكنك حين قلت لي: سلني أعطك، حدثتني نفسي أن أسألك شيئاً من خير الدنيا، ثم ما لبثت أن أهديت إلى إيثار الباقية على الفانية (يعني الآخرة على الدنيا) فسألتك أن تدعو الله لي بأن أكون رفيقك في الجنة.

فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، ثم قال: «أو غير ذلك يا ربيعة؟»، فقلت: كلا يا رسول الله، فما أعدل بما سألتك شيئاً، فقال: «إذن أعني على نفسك بكثرة السجود»(1).

في هذا الموقف الجليل تأكيد على أهمية السجود لله تعالى وأثره العظيم في بلوغ المقاصد وتحقيق الغايات.

وللسجود فوائد وفضائل متعددة ومتنوعة، ويتبين ذلك فيما يأتي:

أولاً: السجود عبادة لله تعالى:

إن الله تعالى أمر بالسجود له في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا ‌وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج: 77)، وقال عز وجل: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ ‌وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت: 37)، وقال أيضاً: (‌فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (النجم: 62)، فالسجود عبادة قائمة بذاتها لله تعالى، وهو يعد مظهراً من مظاهر التقديس للمعبود عز وجل.

ثانياً: تحقيق القرب من الله تعالى:

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنَّ رسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: «أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ».

ثالثاً: علاج ضيق الصدر:

يسهم السجود في علاج ضيق صدر المسلم إذا حزن من شيء، ويدل على هذا ما جاء في قول الله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ {97} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) (الحجر).

رابعاً: استجابة الدعاء:

في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنَّ رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ، فَأَكثِرُوا الدُّعاء»، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، ‌وَأَمَّا ‌السُّجُودُ ‌فَاجْتَهِدُوا ‌فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ».

خامساً: الاقتداء بالرسول:

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب السجود ويطيل فيه، ويدل على ذلك ما رواه المنذري في «الترغيب والترهيب» عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، فصلّى فأطال ‌السجود، حتّى ظننت أنّه قُبض، فلمّا رأيت ذلك قمت حتّى حرّكت إبهامه، فتحرّك فرجع، فلمّا رفع رأسه من ‌السجود، وفرغ من صلاته قال: «يا عائشة -أو يا حميراء- أظننت أنّ النبيّ؟ قد خاس بك (أي غدر بذمتك وضيّع وقت وجوده معك)»، قلت: لا والله يا رسول الله، ولكنّي ظننت أنّك قبضت لطول سجودك.

سادساً: التربية على التواضع ونزع الكبر من النفس:

لقد وصف الله تعالى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم بعدد من الأوصاف في الآية الأخيرة من سورة «الفتح»، حيث قال عز وجل: (‌مُحَمَّدٌ ‌رَسُولُ ‌اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح: 29)، قال مجاهد: هو الخشوع والتّواضع(2)، وقال الحسن: ‌السّجود يُذهِب بالكبر(3).

سابعاً: الفوائد الصحية للسجود:

إن الحديث عن الفوائد الصحية للسجود لا يعني أننا نبحث عن فائدة للسجود هنا أو هناك أو أن السجود شُرع من أجل هذه الفوائد الصحية، كلا.. فالسجود عبادة قائمة بذاتها، ولها فضلها وشرفها، لكننا نستأنس بما أكدته الدراسات العلمية من الفوائد الصحية للسجود من باب زيادة الترغيب فيه، بناء على صحة الدراسات القائمة فيه، حيث أثبتت الدراسات العلمية أن الإنسان يتعرض لجرعات زائدة من الإشعاع، ويعيش في معظم الأحوال وسط مجالات كهرومغناطيسية، الأمر الذي يؤثر على الخلايا، وإن السجود يخلص الإنسان من تلك الشحنات الزائدة التي تسبب العديد من الأمراض، كما يسهم في تنشيط الدورة الدموية وزيادة التركيز، وتدريب الإنسان على الصبر والهدوء(4).

ثامناً: السجود دليل معرفة الرسول لأمته يوم القيامة:

روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذرّ، وأبي الدّرداء أنّهما قالا: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّي لأعرف أمّتي يوم القيامة من بين الأمم» قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرف أمّتك؟ قال: «أعرفهم، يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر ‌السّجود وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم».

تاسعاً: النجاة من النار:

يسهم السجود في نجاة المداوم عليه من النار يوم القيامة، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخرجوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ، مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ ‌آدَمَ ‌إِلَّا ‌أَثَرَ ‌السُّجُودِ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ».

عاشراً: دخول الجنة:

إن السجود هو الوسيلة التي طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من صاحبه وخادمه ربيعة بن كعب أن يداوم عليها حتى يفوز بمرافقته في الجنة، كما تبين في بداية المقال، ويضاف إلى ذلك ما رواه مسلم عن معدان بن أبي طلحة اليعمريّ؛ قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنّة. أو قال: قلت: بأحبّ الأعمال إلى الله. فسكت، ثمّ سألته فسكت. ثمّ سألته الثّالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «عليك بكثرة ‌السّجود لله، فإنّك لا تسجد سجدة إلّا رفعك الله بها درجة، وحطّ عنك بها خطيئة».